السُنّة والشيعة والجسر البعيد

 بغداد ـ علي عبد الأمير علاوي ونسيمة نجاز *

أجريت الانتخابات البرلمانية الأخيرة في العراق، وهي الأولى منذ رحيل قوات الولايات المتحدة عن البلاد في عام 2011، وسط موجة متصاعدة من العنف الذي يقترب بسرعة من المستويات التي شهدتها البلاد خلال تمرد 2005-2007. تُرى هل تتمكن الحكومة الجديدة من استعادة النظام ومعالجة التحديات العديدة التي يواجهها العراق؟

الواقع أن التحديات مروعة ومثبطة للهمم. ويتعين على السلطات أن تسارع إلى حل المسائل الدستورية الجوهرية (ومنها على سبيل المثال، ما إذا كان ينبغي للعراق أن يتحول إلى دولة فيدرالية أو اتحاد كونفدرالي)، وإعادة بناء المجتمع المدني، وإصلاح مؤسسات الدولة، وإعادة بناء الاقتصاد، ووضع حد لإهدار الموارد والفساد.

ولكن لعل التحدي الأصعب على الإطلاق يتمثل في رأب الصدع الطائفي بين المواطنين الشيعة والسُنّة في البلاد. 

من المؤكد أن التاريخ شهد فترات حيث تعايشت الطائفتان بسلام. ولكن الأمر المهم اليوم هو أن الشيعة والسُنّة ينظران إلى ماضيهما بشكل مختلف، وأن هذه الذاكرة التاريخية من الممكن أن تُشَوَّه ــ بل وحتى تُختَرَع ــ لخلق عدم الثقة والكراهية.

كانت الإطاحة بأول أسرة حاكمة على بلاد المسلمين ــ الدولة الأموية الأشد عداوة للشيعة ــ في العام 750 على أيدي العباسيين، الذين أرجعوا نسبهم إلى عم النبي محمد، سبباً في رفع الآمال في التقارب بين السُنّة والشيعة، وإن كان لفترة وجيزة. فكانت السنوات الخمسمائة من عهد العباسيين الذي أعقب ذلك عامرة بالأمثلة التوضيحية القيمة لأوجه العلاقة بين الطائفتين.

وبشكل خاص، هناك الكثير الذي يمكننا أن نتعلمه من التركتين المختلفتين اللتين تركهما الخليفة الناصر والخليفة العباسي الأخير المستعصم بالله. فقد تميز حكم الناصر ــ الذي نظر إلى الشيعة باعتبارهم جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الإسلامي وسعى إلى معاملة رعاياه على قدم المساواة ــ بانخفاض ملحوظ في حدة التوترات الطائفية. وعلى النقيض من ذلك، كانت المصادمات بين السُنّة والشيعة ــ بما في ذلك القتل والحرق وغير ذلك من مظاهر العنف ــ شائعة خلال فترة حكم المستعصم.

وتُظهِر هذه الأمثلة أهمية القيادة الصالحة عندما تخضع المجتمعات التي تحمل تصورات مختلفة للحقيقة لنفس السلطة السياسية ــ وخاصة عندما تسعى هذه المجتمعات للاطمئنان إلى أن بقاءها غير مهدد.

وينبغي لقادة العراق السياسيين الحاليين أن يتعلموا من هذا الماضي وأن يضمنوا عدم مواجهة أي من طوائف البلاد للتهميش أو التمييز ــ وهي الدروس التي يمكن تطبيقها في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. ففي باكستان على سبيل المثال، هناك أحداث قتل طائفي بشكل شبه يومي؛ وفي ماليزيا، يُنظَر إلى السكان الشيعة الذين يشكلون أقلية ضئيلة باعتبارهم تهديداً وجوديا؛ وتهيمن اللغة التحريضية على الخطاب عن الطوائف المتنافسة في الدوائر الوهابية في المملكة العربية السعودية وخارجها.

الواقع أن السياسة والصراعات على السلطة تفسر الكثير من العنف وعدم الثقة. فالخوف من الهيمنة التي تقودها إيران على سبيل المثال، كان سبباً في تركيز عقول زعماء بلدان الخليج على ولاء السكان الشيعة. وتستخدم الأحزاب السياسية في ماليزيا العداء للشيعة لنشر الخوف، وهو ما يساعدهم في اجتذاب الأصوات وتوطيد سلطتهم. ومن الواضح أن سوريا وحلفاءها الإقليميين عاقدو العزم على حماية توازن القوى الإقليمي الجديد الذي تحول لصالحهم بعد غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة.

لكن الحسابات السياسية من غير الممكن أن تفسر كل شيء. ويقدم سقوط صدّام حسين في عام 2003 مثالاً جيداً للكيفية التي يمكن بها تفسير الأحداث بشكل مختلف عندما يُنظَر إليها بعدسة الطائفية. فكان تدمير الولايات المتحدة للدولة العراقية سبباً في جلب نظام جديد محفوف بالمخاطر، والذي سعى إلى استدراك سنوات من الهيمنة السُنّية بمحاباة الشيعة. ورغم هذا فإن الصدمة الناجمة عن فقدان السُنّة للتمكين والسلطة بشكل مفاجئ كانت سبباً في توليد خطاب مشترك على نطاق واسع في العالم الإسلامي، حيث يُعَد الشيعة مذنبين بالتواطؤ مع الاحتلال الأميركي للبلاد ــ وهي النظرة التي عززتها الأحداث في سوريا.

ووفقاً لهذه الفرضية فإن الشيعة ارتَدّوا ببساطة إلى دورهم «التاريخي» كمخربين وطابور خامس. ألم يتواطأ الشيعة أيضاً وفقاً لهذه الفرضية مع المغول لإسقاط بغداد عام 1258، وهو التواطؤ الذي بلغ ذروته في وفاة آخر الخلفاء العباسيين وتدمير الإمبراطورية العباسية، التي كانت بمثابة «الدولة العالمية» للمسلمين؟

وأشار العديد من مؤرخي القرون الوسطى إلى الدور الذي لعبه الوزير الشيعي ابن العلقمي، زاعمين أنه تآمر مع المغول لإسقاط الخلافة. والآن تلعب قصة ابن العلقمي، التي كانت ذات يوم حِكراً على حفنة من العلماء، دوراً بارزاً في النزاعات بين السُنّة والشيعة اليوم. واليوم يُطلَق وصف «العلاقِمة» على الشيعة رمزاً للخيانة.

والواقع أن وسائل الإعلام الاجتماعية زاخرة بالجدال حول الدور الذي لعبه الشيعة في مساعدة الغزاة من المغول والأميركيين.

وتعكس هذه التهجمات ذاكرة العراق التاريخية الـمُستَقطَبة. فبرغم الأدلة التاريخية الوافرة التي تثبت العلاقات السلمية بين الطوائف، يكرس العديد من الناس ــ سواء بسبب الجهل البسيط بالتاريخ أو الحاجة إلى التأكيد على تفوق نسخة بعينها من الحقيقية ــ روايات الغدر والخيانة التي تديم الكراهية.

والأمر الأكثر أهمية هو أن الموقف الحالي يعكس الافتقار إلى الحكمة والمسؤولية والحد الأدنى من اللياقة من جانب الزعماء السياسيين والدينيين، الذين يفضلون تأجيج الصراع بين الطوائف بدلاً من تثبيطه. ومن المحزن أن التعصب أصبح الآن حالة معممة. فكل طائفة تعرف أقل القليل عن معتقدات وتاريخ الطوائف الأخرى، وحتى هذه المعرفة الضئيلة طغى عليها الغضب الطائفي وخطابه المسموم.

وما دام السُنّة والشيعة يرفضون التفكير في ماضيهم معا، فمن الصعب أن نتنبأ بمستقبل هادئ معا. وإذا كان الزعماء السياسيون والدينيون غير قادرين أو غير راغبين في السعي إلى التوفيق والتسوية، فسوف يؤول الأمر إلى الأفراد والجماعات ومؤسسات المجتمع المدني من ذوي الفكر المتماثل لإعادة بناء الاحترام المتبادل وإيجاد السبل للتعاون. وسوف يتطلب تحقيق هذه الغاية التحلي بالمعرفة، والصبر، وفي المقام الأول العقول والقلوب المفتوحة.

* ترجمة: إبراهيم محمد علي

بروجيكت سنديكيت

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة