دروس في الفوتوشوب. قصة قصيرة

بعضهم يسميها مواهب، أنا أسميها في الكثير من الأحيان إبتكار، قابلية المرأ على إدراك، عمل أو معرفة هذا أو ذاك. وكم كنت أحسد أخي الصغير على تفانيه لو أتصل به أحد ما في الشمال أو في الجنوب طالباً منه لقاءه أو مرافقته فسيذهب إليه دون تردد… أحد أقربائي يفوق أخي موهبة، مرة رأيته قادماً للتو من الموصل مع أحد أصدقاءه الذي طلب رفقته لهناك. وهو لا يزال في السيارة عائداً لبيته في إحدى أحياء بغداد، سأله أحد أصدقاءه:

– “هل لك تأتي معي للبصرة، الآن؟”. فأجابه بأن صاح على أخيه الذي كان حينها يلعب في الشارع:
– “قل لأمي بأني ذاهب مع صلاح للبصرة”.
كنت أرى أن هناك لذة كبيرة في الأمر، لذة في أن يكون المرأ أجتماعياً وأن لا يكون متقاعساً في تنفيذ طلباً من أحد الأصدقاء! لم أكن أحسن هذا أبداً في السابق… قبل خمسة أعوام، عندما أحسست بالكبر يغزوني كلياً، قررت أن لا أتراجع أبداً مهما كان الأمر على تنفيذ رغبة لقريب أو صديق يطلبها مني ولا تكلفني شيئاً، أو حتى لو كلفتني!
كم حاولت مراراً وتكراراً الكتابة إليك، لكن كلماتي تضيع مني كأيام الذكريات الضائعة وتختلس الأنظار لي باكياً… لا تقترب، دع هذا الجسد ينام فوق نزفه الشرقي. آه يا صديقي، ما أتعب هذا اللون الذي حملته ومزجته بعدة ألوان، ولكن ضاعت كلها والذكرى بقيت عالقة فوق الجدران، أريد أن أقتلع بعض الكلمات، لكنها لا تبغي مبارحة مكانها، أحملها، لكنها جثة متعفنة تتناثر أشلاءها هنا وهناك.
حتى الصمت الذي يزورني عندما أفقد كل شيء، وأصبح فقاعة بحر في أي لحظة ترتطم بأجنحة الطيور المهاجرة وتنفجر!
في بعض الأحيان ألعنك يا صديقي، وأنت بجانبي أراك صامتاً. وأبغي أن أبوح لك بشيء ما، لكن الأشياء أصبحت حقائب فارغة على الأرصفة…
نظرت إلى السماء الصافية وإلى قمرها البدري الذي طغى ضياءه على أضاءة الشارع الطويل الذي أقود عليه دراجتي الهوائية متجهاً إلى بيتي. بدأت أغني أغنية إنجليزية بصوت عال، أغني بزهو عالياً، عالياً جداً… حتى قطع متعتي بالغناء هاتفاً مزعجاً، لكن نغمته عراقية، من بيتنا هناك. وأنا أقف بدراجتي وأجيب على هاتفي، أنه أبن أخي، أبني الروحي، جزء كبير من روحي…
– “ماذا هناك؟ ما الذي حصل ودعاك تتصل بي في الساعة الواحدة والنصف ليلاً، يعني عندكم الثالثة والنصف؟”
– “ليس هناك شيء سوى أني لم أستطع النوم، وكنت أفكر بالأتصال بك طوال الوقت. كنت أعرف بأنك لن تجيب على هاتفي، فأعرفك لا تسهر…”
أخبرني أبني الحبيب بأنه يشتاق لي كثيراً ويريد رؤيتي بأي ثمن، مهما يكن… ثم هو يريدني أن أفي بوعدي له ولغيره بأن أعطيهم دروساً على الفوتوشوب، التي طال أنتظارهم لي ولها!
لم أتردد وأخبرته بأني قادم لهم على أول طائرة.
في مطار بغداد أخذ أحد الضباط وهو يتمعن بجواز سفري صفحة صفحة، ثم ينظر لوجهي وينظر لشاشة الكمبيوتر التي أمامه. قال لي عليك أن تدفع غرامة 120 يورو لأنك تجاوزت السرعة قبل بضعة أسابيع في أحد الشوارع!
– “ها ها ها… ليست مضحكة!” قلت مستهزئاً من النكتة السخيفة!
– “أنا لا أمزح فقد وصلنا فاكس مستعجل كي نأخذ منك هذه الغرامة للحكومة الهولندية”. أجابني الضابط بنبرة حادة، جادة، وليس في تقاطيع وجهه الكركمي أي تردد لأن يفعل أي شيء!
– “أخي العزيز، أسمعني جيداً أرجوك. أنا حتى لا أمتلك سيارة، لن أعطيك هدية، ولن أعطيكم أكرامية، ولن أعطيكم أي شيء غير مبلغ تأشيرة إن كان هناك تأشيرة ينبغي أن أدفعها. أما رشوة، فسأعطيك، نعم سأعطيك رشوة، شريطة أن تطلبها بنفسك مني دون لف أو دوران!”. الجدال طال، والأصوات أرتفعت، ولا أدري من تدخل في الحديث…
نظرت حولي فوجدت نفسي في حمام طوله مترين في متر ونصف وأرتفاعه ثلاثة أمتار. رائحته عفنة. مددت يدي للباب الحديدي الذي يملأه الصدأ، وفتحته مرتبكاً برفق، لم يكن مقفلاً! لكن أين لي بالهروب؟ كيف لي الهروب؟ وكيف أستطيع الخلاص من عشرات السيطرات في الطريق؟ لِمَ لم يقفلوا عليّ موقفهم، سجنهم المكفهر الأصفر مثل وجوههم؟ لو كان الحمام مقفلاً لأرتحت من التفكير بالهروب وعدم مقدرتي عليه، اللعنة عليكم جميعاً!
– “كيف تستطيعون النوم يا قشامر وأخوكم ليس لديه مكان لينام؟ هيا قوموا بسرعة للزاوية!”… هكذا دخل مأمور السجن يرعد بصوته الرقيق فقد رآني جالساً والحشد الباقي من السجناء نائم! ظل يأمرنا الرجل بالأنتقال من إحدى زوايا الغرفة إلى أخرى، وأنا معهم، وأخرنا لابد أن يضرب بعنف بسلسلة حديدية بدون أية رحمة، حصلت أنا على واحدة منها وظل طبعها على ظهري لسنتين ونصف! لتنتهي هذه اللعبة القذرة بمحاضرة غاية بالسماجة عن الأخلاق… يا سبحان الله، لم يتغير شيء في العراق ذاك الطاس ونفس الحمام!
– “تعال أنت أبو الكوباي” صاح عليّ أحدهم، لماذا تقف هكذا؟ من أين لك حذاءك هذه؟ هل تضحك علينا؟ ما الذي يميزك عنا؟ ماذا تعنيه بأن تتكتف أمامنا؟ أسئلة غبية وسخيفة كلها طرحت عليّ من سبعة رجال ضخمين وجهوا لي مجموعة صفعات ولكمات بدون أية رحمة… ثانية! لينتهوا بي أن يتخذ الجميع وضع الحشر بإحدى زوايا الغرفة التي لا يتجاوز حجمها الستة أمتار في خمسة وفيها 42 سجيناً. وكل من في نهاية التجمع يستحق الضرب بكل عنف من قبل الأنضباط العسكري، السجانين…
جاء كبيرهم بصوته الرقيق، الحنين، الأبوي… سمعنا درساً في الأخلاق منه، ولا أحد منا يعرف من يستحق أن توجه له هذه المحاضرة ومِن مَن؟!
– “هيا أصعد على رؤوس هؤلاء، أريدك أن تمسك السقف!” وجه كلامه لي أخيراً بعد نصف ساعة من درسه المقيت!
– “لماذا؟ ما الذي حصل؟ ولماذا تستمتعون بأهانتنا يا وحوش؟”… هكذا وجهت كلامي لكبيرهم بجرأة بعد أن أستعدت أنفاسي قليلاً. لتأتيني ضربة قوية من أحد الحراس فأمسك يده بقوة بيدي اليسار بحركة لا إرادية. فتأتيني الضربات من كل من كان حاضراً هناك…
– “أخونا يرحم والديك أصعد على رؤوسنا، أرحم روحك وأرحمنا معك… وخلصنا…”. صعدت على رؤوس وأكتاف الجميع ومسكت السقف. وأنا بالأعلى صاح عليّ كبيرهم:
– “هيا ردد: صوچي صوچي، كله من إيديّه…”. وبعد جدال عقيم على التهمة ولماذا وماذا… رددتها، رددتها صاغراً… وكلما تذكرتها أصاب بالأنهيار العصبي!
أهذه هي العمارة، ميسان، التي كنت أتمنى رؤيتها من زمان؟ فلا أراها إلا مع وجوه ضاع منها الحياء والدماء!؟ تباً لكم ولعمارتكم أيها الأنذال!
أنقذيني… ولكن الصدى يموت ويدفن وينطفئ كالجمرة بالثلج! وصلت بي الحالة إلى الأغماء من شدة التعب وآلام الكلى الشديدة، فسقطت على الأرض وأخذ الثلج يدفن وجهي رويداً رويدا… أخذت بعض القطرات من المطر توقظني. أحقاً تكون حبيبتي قد جاءت وسمعت صراخي؟ لا أحد بجانبي سوى سماعي أصوات الكلاب، نظرت إلى ساعتي وكانت قد تجاوزت الساعة السادسة صباحاً، وعلى مبعدة عشرة أمتار، كانت إمرأة عجوز كردية تلوح لي بيديها فطلبت مني أن أرافقها إلى بيتها الطيني!
وهناك عند دخولي البيت خلعت العجوز ملابسي وطلبت مني أن أخلع لباسي الداخلي أيضاً… أحتضنت المدفئة الخشبية بقوة، دون فائدة، فكل جزء من جسمي كان يصرخ ويرتعد من شدة البرد!
أجتمع الجميع حولي وكان هناك (لاب توب) عند أثنين منهم، وأمامي كمبيوتر كنت قد جلبته لهم قبل بضعة سنوات… وأمي كانت مصرة أن تحضر المحاضرة مع أبناءها وأحفادها. فأتخذت مكاناً بعيداً في إحدى زوايا الغرفة، مستلقية على فراش وتستمع مستمتعة لنا مبتسمة فرحة!
– “قبل أن أبدأ محاضرتي معكم، أريد منكم، من الجميع أن يضع عشرين دولاراً أمامي الآن، أو ما يعادلهما، سعر خمسة دروس. عدا (فتونه)!”. صاح الجميع معترضاً، ما هذا ولماذا؟ ثم لِمَ الجميع عدا فاتن؟
– “فتونه هي الوحيدة بكم المتحمسة والجادة في التعلم، وحتى أتأكد من أن محاضراتي لن تذهب سدى لذا أطالبكم بهذا المبلغ”… أردفت ضاحكاً: “يلله، يلله، وبدون لغوة!”.
أتى اليّ الجميع بعشرين دولار أو ما يعادلها بالدينار العراقي، وأبني الروحي أعطاني بطاقة تلفون يقول أن فيها 15 دولار… “أحمم لا بأس، لا بأس بالمبلغ”. قلتها ضاحكاً، وسأعطيها كلها لأمي لاحقاً. “هل الجميع مستعد لبدئ المحاضرة الأولى؟” جميل:
– “هيا شغلو برنامج الفوتوشوب”.

 

موفق الطاهر

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة