كتابة الذاكرة … للكاتب علي عبد العال

 أحلام ملغوث

 “أحلام ملغوث”؛ يا له من اسم غريب. حتى كانت مجرد طفلة لم تتجاوز الرابعة عشرة. كانت الدنيا عاشوراء، الطبول تُقرغ في جميع الأرجاء، أرجاء المدينة الصغيرة، لا يوجد بيت لا يسمع قرع الطبول، الناس كلها في الشوارع والطرقات ترى هذه المأساة التي حدثت قبل أربعة عشر قرناً على شكل مشهد مسرحي فطري إلى حد يثير البكاء في صفوف الجماهير الغفيرة. طبول الحزن وطبول العنف التي تستذكر دماء الشهيد العربي التاريخي الأول ضد نظام الدولة والحكم الجائر الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب. بيتنا يقع في مركز المدينة، بحيث ترتج جميع جدرانه لقرع الطبول، وكأنها، مع الصدى الملحق معها وتردداته الصوتية المتلاحقة، كأنها تُقرع داخل البيت.

أُلقيت هذه الطفلة في بيتنا وهي مدماة. مدماة في الوجه وبين الأفخاذ. كان قد عبث بها العابثون. ومثل قطة جريحة ركنتْ إلى زاوية مظلمة من بهو البيت وهي ترتعد من الخوف. كان بدنها يرتجف من الأعلى إلى الأسفل. ترتعد مثل قشة في مهب الريح. قيل مثل هذا الكلام، لكن وصف حال الأم ملغوث في تلك اللحظات الرهيبة هو في الحقيقة أشبه بورقة خضراء تسقط من شجرة قبل أوان الخريف. كانت ترتجف، الدم بين فخذيها الطريين الأبيضين الناعمين، وكان وجهها أحمر مثل لون الرمان المفلوع، وكأن ألف رجل عضه من الخدود وامتصه من الشفاه. كانت محطمة حتى أنها سقطت في بيتنا بعد قليل من الوقت مضرجة بالدماء من جميع الأنحاء. ومثل قطة محطمة كانت تسعى إلى مكانها الأول. وبينما كانت الصغيرة أحلام ملغوث تختفي بين جدران بيت مؤجر تم إعلان انتحار “طارق” الذي يسكن في البيت ذاته. طارق الجميل الذي ودّع الزقاق بكثير من المحبة والوداد. ذلك الجمال الرجولي الشاب، سرعان ما انتحر. ليس لدينا أدوات للتعبير عن هذه المأساة المفاجئة، لكن يمكن القول ان الدموع التي ذرفت على طارق في تلك الحارة تعادل مياه بحر. كان حراً وطليقاً وجميلاً ومحباً ومن غير أن يتسبب بأذى على أي بشر، لا يمكن نسيان صفة عظيمة تجلل هذا الشاب؛ إنه كان نقياً.

 “لماذا انتحر طارق”؟

ودعنا الواحد تلو الآخر؛ بكل بهاء وروعة؛ قبّل الصغار والكبار بوداد كأنه يعرف جيداً أننا سوف نحتفظ بهذه اللقطات الغريبة في مجريات الحياة المقبلة كما يمكن أن أكتبها في هذه اللحظات بعد أربعين سنة، طارق يستحق الخلود كفرد أحب الجميع وقتل نفسه بجمال وبوضع غامض حتى الآن. كان يعرف جيداً انه يودعنا الواحد تلو الآخر. وكان منتشياً وفرحاً وضاحكاً مثل السكران بالوجد العميق. لم أر في حياتي أحداً يسعد باستقبال موته بهذه السعادة الغامرة، التي تعني لحظة الخلاص من العذاب المجاني في مجرى الأيام الاعتيادي. كان ذلك أشبه بالانتصار المهزوم. تم الإعلان عن موت الدكتور طارق في التحقيقات الرسمية بأنه “انتحار”. طارق نوع من الأشخاص الذين تصدق جيداً ما يفعلون. لذا صدّق الناس في الحارة فعله الغريب وسلموا بمشيئة طارق العفوية والصادمة. لكن في التحقيق قال رجال الشرطة إنهم عثروا على ورقة كتبها بخط يده قبل إقدامه على الانتحار تثبت أنه اختار وضع نهاية لحياته بإرادة حرة.

مات طارق الجميل؛ ولم تكد تمضي أكثر من ثلاثة أشهر من الحزن في الحارة حتى توهج الحزن من جديد في البيوت الثلاثة الخاضعة للإيجار. بيوت أهل السماوة نسبة لمالكها الذي من قضاء السماوة. بالذات من بيت طارق الذي لم يمض على دفنه سوى بضعة أسابيع.

الغرباء مصائهبم أكبر من أهل المنطقة. الغرباء غامضون، معذبون، مؤدبون، أبرياء خائفون. الغرباء في أوطانهم هم أكثر الناس عذاباً على وجه الأرض. طارق الجميل هو العلامة البارزة في هذا البيت المستأجر. لكن هنالك أشخاصاً في البيت أيضاً. مثلاً أحلام ملغوث الطفلة الجميلة، يعتقد أهل الحارة أنها ابنة أخت طارق. كانت في البيت امرأة نحيفة جداً، جلد على عظم، لكنها صلبة وذات وجه جميل بغض النظر عن الجوع، لأن الوضع العام كان بخير والكل لديهم عمل وأجور جيدة. بعد ذلك كان يتردد على البيت رجل وسيم ورزين له شعر خاطه الشيب، وبنيته الجسمانية راكزة بتواضع على الرغم من قوتها الملحوظة. يدخل ويخرج من البيت من دون أن يلفت أي انتباه أو اعتراض من قبل أهل الحارة. طويل، نحيف، قوي، وواثق يستطيع التواجد في أي مكان بثقة عالية من غير أن يجرؤ أحد على التدخل بشأنه الخاص. ظنّ الجميع في الحارة أنه زوج أخت طارق، تلك المرأة النحيفة التي هي جلد على العظم. بعد ذلك، وعلى الرغم من جميع المصاعب يتحول الغريب إلى شخص مشبوه، ومن ثم إلى شخص مشكوك بأمره، وبعد قليل يصير عرضة لجميع التأويلات. و تتغلب عواطف عدم الرحمة على عواطف الرحمة ومن ثم ينقلب الناس على بعضهم وتحتل البغضاء نفوسهم من دون مبررات حقيقية. ثم جاءت فتاة أخرى وسكنت في البيت المستأجر. كانت أشبه بتلك النحيفة العجفاء التي لا نرى منها سوى وجه يطل سريعاً من خلف الباب بقصد الإغلاق. وكانت أحلام ملغوث تسكن في هذا البيت. لم نعد نرى نحن أبناء الحارة أحلام ملغوث على الإطلاق. وفي داخل نفسي أحسست أنها عقوبة تتلقاها أحلام بعد فعلتها القبيحة في أيام عاشوراء. وضع البيت غامض جداً. الذي غطى على تفصيلات ما يجرى بداخله هو انتحار الجميل والبريء طارق.

لم يشأ أي من سكان الحارة إيذاء هؤلاء الناس الغرباء، وإلحاق المزيد من الحزن بينهم؛ لكنهم كانوا يقضون بعضهم على بعض بطريقة غريبة، ويرفضون أي تدخل أو معونة من قبل الآخرين.

بعد أيام خرجت جثة من هذا البيت ملفوفة بالبطانيات ورائحة شواء اللحم البشري تفوح في أرجاء المكان. قالوا: “انتحرت بصب النفط على نفسها وأشعلت النار”.

أتذكر تلك الرائحة حتى هذه اللحظة، و إن لم أعرف من هي التي انتحرت. كنت أوشك على الظن أن أحلام هي الملفوفة بتلك البطانية. لكني رأيت وجهها المذعور يطل من خلف الأحداث كما رأيتها وهي ممزقة الأوصال روحياً. وبعد ذلك رأيت تلك المرأة النحيفة ذات التقاسيم الصارمة. وكذلك كان الرجل الوحيد الذي رفع الجثمان المحروق والملفوف بالبطانية بمساعدة السائق، هو ذاته الرجل الوسيم القوي الغامض الذي لم يكن يأبه للجميع وهو يؤدي عمله بثقة ومن غير حزن. قلت في نفسي: “أحلام هي التالية”.

**

يسمع حميد الأعمى الأصوات في الزقاق كما يسمعها كلب؛ ويشمّ الرائحة مثلما يشمها كلب، لكنه يحتفظ بسمات الوفاء ككلب رائع من جنس البشر. وأمام باب الدار كانت تخرج امرأة لترمي النفايات في الشارع، تجدها تصرخ دوماً على أطفالها الصغار التائهين في الزقاق. كانت هذه السيدة تصرخ وهي تنادي الأطفال، وحميد يسمع صوتها الرنان. قال لي حميد الأعمى:

ـ هل ترى هذه المرأة؟

قلتُ:

ـ نعم أراها.

قال:

ـ هل هي جميلة؟

لم أكن أعرف مقاييس الجمال، وهذه امرأة تظهر من الباب لترمي النفايات ولتصرخ على الأطفال بصوت عال. وهي ترتدي ثوباً قصيراً اعتيادياً جداً كما ترتدي النساء الثياب في البيوت، لكنها والحق يُقال كانت لا ترتدي حمالة الصدر وأكثر جرأة على الظهور في الحارة كما لو أنها داخل البيت. كان حميد الأعمى يسمع صوتها ويشم رائحتها عن بعد.

قال لي:

ـ أوصلني للباب فقط.

كان يقصد باب المرأة التي تصرخ بصوت عالٍ في الزقاق. أوصلته للباب فاقتحم البيت.

دخله ومسكها في مكان من الدار وضاجعها. بعد قليل خرج من الدار كقائد منتصر، عرفت بخوف أنه ضاجع هذه المرأة الشرسة ذات الصوت العالي. أخذته من الباب كما أودعته بقلق. كانت فرحة وشبعانة إلى حد الارتواء.

قالت:

ـ هذا أعمى فيه بلاء.

كانت شكورة ورائعة بحيث أخذت تطلق الضحكات الجميلة.

بعد ذلك كانت تطلق صوتاً يعرفه حميد الأعمى جيداً فيذهب لمضاجعتها في الدار في وضح النهار. مع كل ذلك لم يتنازل حميد الأعمى عن نظافة ملابسه ونظافة روحه ونقائه المعهود. قال:

ـ إنها سمينة وطيبة وتحب المضاجعة. صار حميد الأعمى يضاجعها على وفق إشارة معينة تطلقها في الضحى بين اليوم والاخر. حميد يذهب سراعاً لبيته للاغتسال ليظهر بملابس نظيفة وطاهرة. كان حريصاً على نظافة جسده وثيابه بمقدار حرصه على ممارسة الجنس.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة