فضاءات الخيبة.. في رواية البطريق الحالم لـ كريم عباس

أميمة كاظم كريم

مقدمة: سبحانك كل الأشياء رضيتُ سوى الذل

وأن يوضع قلبي في قفصٍ في بيت السلطان

ورضيت نصيبي في الدنيا كنصيب الطير

ولكن سبحانك، حتى الطير لها أوطان

وتعود إليها

وأنا ما زلت أطير…

الشاعر الكبير مظفر النواب

 

البطريق الحالم: تعد هذه الرواية نافذة جلية على عالم المغتربين، أذ تطرح نفسها بثقة، مصرحة عن انتمائها /للأدب الواقعي/ الذي يعده البعض روايات خائبة بينما يقف على الجانب الآخر كتاب، مبدعون، نقاد، أخصائيون نفسيون يشيدون بأهمية هذا النوع.

يشير الكاتب ماريو فارغاس يوسا في كتابه “رسائل إلى روائي ناجح” إلى أهمية الأدب الواقعي، ويُبيّن أن الروايات المؤثرة هي تلك التي تمزج بين التجارب الواقعية والخيال. ويحظى هذا النوع من الإبداع بتقدير كبير في العالم الغربي، ويكفي أن تتصدر عبارة “قصة واقعية” لإضفاء تأثير قوي وجاذب لمحبي هذا النوع من الأعمال الإبداعية، سواء كانت أفلامًا أو روايات. وهنا ينأى الأدب الواقعي بنفسه عن كونه مجرد ناقل أو مدوّن. وكما تُلهم الطبيعة الرسامين، فالمدرسة الواقعية في الرسم أفضل من تبنت تصوير الواقع وتفاصيل الحياة اليومية كأسلوب لها حين ظهرت في منتصف القرن التاسع عشر، وأشهر فنانيها غوستاف كوربيه وجان فرانسوا ميليه. ومع ذلك، ليس كل من يغمره جمال المشاهدات الواقعية قادراُ أن يرتقي بمشاهداته أعمالا إبداعية كالفنان، وإن كان شغوفًا بالفن حد الهيام.

تظل التجارب الإنسانية متاحة للجميع، إلا أن المبدع، رسامًا كان أو كاتبًا، هو وحده من يمتلك أن يوظف شغفه وقدراته الإبداعية محولًا إياها مادةً تُثري المتذوق وتمنحه تجربة استثنائية.

رمزية العنوان: البطاريق، أسرت هذه الطيور الملكية ذات الزي الرسمي قلوب وعقول الناس حول العالم، (ستيفنن مارتن). وتعتبر رمزًا شائعًا ومحبوبًا في الأدب والسينما، ولها خصائص فريدة تجعلها ملهمة وغنية بالرمزية. أجاد الكاتب توظيف الأداة اللغوية فغدت رمزية العنوان منسجمة مع محتوى الرواية، فاذا ما تمعنا في رمزيه البطريق الحالم نجد:

السمات الخارجية: تتسم الشخصية بهيئة بسيطة، تضفي عليها روح مرحة، فكأن في بدانتها وطريقتها المتثاقلة في المشي انعكاساً لجاذبيتها الصادقة ودفئها الداخلي، بما يشبه روح البطل وخصاله الطيبة التي تتجلى في كل خطوة، وتثير في الذهن صورة البطريق، ذلك الكائن الذي يحمل براءة الطفولة وصدقها.

التحدي والصمود: البطريق يمثل القدرة على التكيف والصمود في ظروف قاسية، وهو ما يعكس تجربة الشخصية الرئيسية في الرواية. يعيش البطريق في بيئات متجمدة، لكنه لا يستسلم، مما يرمز إلى الصراع المستمر الذي يواجه المغتربون وتلك التحديات التي تلاقيهم ضمن محيطهم الجديد.

الحنين إلى الوطن: البطريق أيضًا يعاني من الحنين والرغبة في العودة إلى الوطن، حيث يتم تصويره ككائن يعيش بين البيئات المختلفة ولكنه يتوق لموطنه الأصلي.

الهوية والانتماء: الرواية تستكشف قضايا الهوية والانتماء من خلال المغترب فجر، مما يعكس شعورها بالانفصال عن جذورها. وتلك الصعوبات التي يوجهها المهاجرون في الحفاظ على هويتهم وسط ثقافات جديدة.

الأمل والطموح: يُصنف البطريق كطائر، إلا أنه يفتقر إلى القدرة على الطيران. بينما يحلق بطل الرواية بأحلام العودة للوطن، ومن الصعوبات التي يوجهها البطريق في بيئته المتجمدة، أنه يكابد الصوم والجوع لأربعة وستين يومًا في السنة حين يترك موطنه وصغاره ويلج في رحلة البحث عن الطعام لكنه لا يستسلم.

التأمل في العلاقات الإنسانية: عند التأمل في العلاقات داخل مجتمع البطاريق، نجد أنها تُشابه العلاقات البشرية. تعيش البطاريق في مجموعات تُظهر التفاعل والتآزر، وتعكس العلاقات المعقدة التي تشمل الصداقة والدعم المتبادل ونقيضها كالاستغلال والخذلان والخيانة. تُصطف البطاريق متلاصقة الأجساد في مشهد عاطفي رائع، حيث تحمي وتدفئ بعضها بأجسادها في ظروف العراء المتجمدة، كما تشارك الأمهات مع الآباء في تنشئة صغارها. وفي حال تعرضت إناث البطريق لسرقة أحد صغارها، قد تلجأ إلى سرقة طفل أنثى أخرى انتقامًا، في حين يخون الذكر أنثاه.. وكلها أمثلة لأحداث الرواية وحياة البشر المتناقضة.

 

 

رمزية الاسم: الفجر، تلك اللحظات الآسرةُ المطمئنة، الفاصلةِ بين ليلٍ مظلمٍ ونهارٍ مضيء، يحمل الفجرُ في دقائقهِ القصيرةِ مناخًا ساحرًا تستأنس به النفوس ويأسرها دون أن تلم بمكنون سره. وكذا هو الحال مع الشخصيات النقية المعطاءة، لا يعلم سرّها سوى خالقها.

هذه رمزية قد جاءت دقيقة وعميقة، حملت اسمًا جميلاً ذا شعورٍ دَفق وجه إحساسنا نحو صفاتها الأخرى. في حين ظل يلوح بصورته التي ارتبطت في (الغالب وليس في العموم) بأذهان المجتمع العراقي بشخصية (شعبية، أي بسيطة غير مثقفة)، إن صح التعبير.

فكم من فجر محبوب، نقي، عفوي، كريمٌ، معطاء، وتلك بعض من صفات الشخصية العميقة الكبيرة.

متن الرواية: تبدأ الرواية بتقنية الراوي العليم الذي يبدأ بوصف الحياة اليومية للعراقي فجر في الدنمارك، الذي يعاني ويلات الاغتراب ويتعرض للاستغلال من قِبل أقربائه وأصدقائه. يوفق الكاتب بنقل جوانب من بيئة وثقافة البلد الآخر. يشعر المرء أنه فعلاً سافر وعايش تلكم الأجواء في البلد الأوروبي، الدنمارك. يعيش البطل هناك حياة مزدوجة: من جهة، هو رجل كريم وطيب القلب، يتحمل أعباء مصاريف أصدقائه رغم ضيق ذات اليد، ومن جهة أخرى، هو ضحية لعائلة لا تُقدّر تضحياته. ثم تنتقل بنا الرواية إلى العراق وحلم فجر في العودة للوطن، البيئة الأخرى للرواية. وهنا تعكس الرواية جزءًا هامًا من جوانب البيئة السلبية في ظل الحصار الاقتصادي وما توالت على البلد من ويلات وحروب، أدت إلى تزعزع تلك القيم النبيلة التي كانت تسود شعبًا غنياً طيب الأعراق. وهنا يكون الروائي قد اجاد، الاشتغال على عنصر البيئة المكانية في (المغترب والوطن) والذي يُعتبر أحد أهم عناصر الرواية، وارتباطه مع نسق الأحداث في الرواية. إذ يسعى فجر في بناء مستقبل لعائلته من خلال إرسال الأموال إلى أخيه في العراق، يتصاعد الصراع الدرامي للأحداث. إذ يتمادى هذا الأخ في نكران استلام تلك الأموال، مما يسلط الضوء على أحد المواضيع الأساسية في الرواية: استغلال القيم الإنسانية النبيلة. إن طيبة فجر ليست مجرد سمة شخصية، بل هي عائق أمامه، تجعل منه فريسة للانتهازية المحيطة به. تتعمق الرواية في تجارب فجر الشخصية، بما في ذلك طفولته الصعبة وزواجه ثلاث مرات، مما يضيف عمقًا إلى شخصيته ويظهر التحولات النفسية التي يمر بها، إذ يصل في النهاية إلى مرحلة من النضوج تتجلى في قراره بعدم مسامحة أخيه، وهو تحول يعكس نمو الشخصية ووعيها بالواقع المحيط.

الأسلوب السردي للكاتب امتاز بكونه متمكنًا من الأداة السردية. ممتع، مشوق رغم مأساوية القصة. وهذا يُحسب بلا شك لقدرة الكاتب الإبداعية. الأداة اللغوية جاءت عفوية سلسة، مما جعلها متوافقة مع شخصية فجر البسيطة. وتلك اللغة السلسة التي لم تكن من نوع “السهل الممتنع” الذي اعتدنا حضوره في جنس الروايات التي تتناول قضايا إنسانية مجتمعية كبيرة كهذه الرواية لكننا هنا إزاء سرد/ سهلٌ ممتنع /عكس التوترات الداخلية والخارجية التي يعيشها البطل، مما يمنح القارئ تجربة غامرة في عالم الغربة والخيبة.

خلاصة: اجتمعت للرواية عناصر الجنس الروائي الناجح ضمن بنية إبداعية ممتعة. تعتبر هذه الرواية معالجة بارعة لقضية المغتربين، حيث تُظهر العذابات التي يعيشها أولئك الذين فقدوا أوطانهم، وكيف تُلقي الغربة بظلالها على العلاقات الإنسانية، خاصة عندما يواجه المغترب حقدًا وغيرة من أقرب الناس اليه أهله وأحبائه.

البطريق الحالم لم تكتفِ بسرد قصة رواية، بل وفقت في طرح الرسالة الأخلاقية التي حملتها. فهي تقدم دعوه للتأمل في التحديات التي تواجهه هذه الفئة، لكيلا تبقى شريحة من الناس / المغتربون/ تُعاني في صمت، أولئك من أضحت جميل شمائلهم ذنوبًا، فرفقاً بهم فلسان حال الفرد منهم يقول: أني مما أنا باكٍ منه محسودُ (أبو الطيب المتنبي).

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة