جسور الوجود: قراءة في قصيدة “افتتاح” لزعيم نصار

د. عادل الثامري

يشكل الشعر مساحة خصبة للتأمل الفلسفي والروحي، حيث تتحول الكلمات إلى جسور تربط بين عوالم المادة والروح. تمثل قصيدة “افتتاح” للشاعر زعيم نصار من مجموعته “موجتان في زورق” نموذجاً متميزاً لهذا النوع من الشعر، تتجلى فيها براعة الشاعر في توظيف الرموز الطبيعية لاستكشاف أعمق للمعاني الوجودية. فالماء والنور والنار، في هذه القصيدة، لم تعد مجرد عناصر طبيعية، بل تتحول إلى لغة رمزية عميقة تستكشف جدلية الوجود وتعقيداته، وتؤسس لرؤية شعرية تتجاوز حدود المرئي إلى عوالم الروح والمطلق.

استهل الشاعر قصيدته بتأسيس ثنائية جوهرية تتمحور حول الماء في قوله: “كلمتان من الماء، الماءُ امرأةٌ، والماء رجل”. هذا الاستهلال يؤسس لرؤية شعرية عميقة تتجاوز التقسيم البيولوجي البسيط إلى فهم أعمق لطبيعة الوجود. فالماء هنا ليس مجرد عنصر طبيعي، بل هو رمز للحياة في تجلياتها المختلفة، وللوحدة الكامنة في قلب التنوع. تكتسب هذه الثنائية أهمية خاصة في سياق القصيدة لأنها تمثل نقطة انطلاق نحو فهم أعمق للعلاقة بين المتناقضات وتكاملها.

تتعمق الرؤية الشعرية في صورة الموجتين: “موجةٌ انثى، وموجة أخرى”، حيث تتحول الحركة إلى رقصة كونية. يقول الشاعر: “يتهادى تحت زرقة الشعلة”، مؤسساً لرؤية دينامية للوجود حيث الحركة تعبير عن التناغم الأزلي. الموجتان ليستا مجرد حركات مائية، بل هما رمز للتكامل الدائم. كل موجة تحمل في ذاتها إمكانية الأخرى، في تداخل يمحو حدود الفصل ويؤكد وحدة الجوهر.  هذه الرؤية الشعرية تقدم فلسفة عميقة للوجود، حيث يصبح الاختلاف مجرد تجلٍ مؤقت لوحدة أعمق. فالماء – بأنوثته وذكورته، بموجاته المتناغمة – يروي حكاية الكون الأبدية: قصة التكامل المستمر.

تتجلى المرآة في القصيدة كفضاء وجودي متعالٍ، حيث يقول الشاعر: “والمرآة بينهما، ترى الموجتين في نهر الزمن، هي عيونهما”. إنها أكثر من سطح عاكس – بل هي منطقة وسيطة للوعي، حيث تلتقي الذات بذاتها والآخر بآخريته. المرآة هنا تؤسس لميتافيزيقيا الرؤية، فهي جسر معرفي يربط بين عوالم متعددة: الظاهر والباطن، المادي والروحي، اللحظة والأبدية. إنها عين كونية تختزن رؤى متعددة، وفضاء للتأمل الذاتي العميق. في قوله “وهما ينظران الى زورقهما”، يكشف الشاعر عن رحلة وجودية مشتركة. الزورق – كرمز للرحلة – يصبح استعارة للوجود الإنساني المشترك، حيث تتلاقى الذوات في رحلة الاستكشاف الكبرى.  المرآة تحمل قدرة مزدوجة: فهي تعكس وتخلق في آنٍ واحد. إنها مساحة للاكتشاف، حيث يرى كل طرف نفسه من خلال عيني الآخر، وتتجاوز الرؤية الثنائية البسيطة إلى رؤية أكثر شمولية وعمقاً.

تجلى عمق مفهوم الوحدة في التنوع عبر صورة النبع المتوهج، حيث يناجي الشاعر: “انتفضْ أيها النبع، في نرجسة الأعماق”. إنها لحظة ميلاد وجودية، يصبح فيها النبع رحماً كونياً تتفجر منه الحياة في تجلياتها المتعددة. النبع هنا ليس مجرد مصدر مائي، بل هو رمز للأصل المتجدد، للينبوع الأول الذي تنبثق منه الوجودات المتنوعة. يؤكد الشاعر هذه الرؤية في استعارة شعرية عميقة: “لأتذوق ملحَ كأسها، روحَها، شعرَها، نظراتَها، شفتيها، اصابعَها، شعلتَها”، حيث تتجلى الحياة في تفاصيلها اللامتناهية، مع احتفاظها بوحدتها الجوهرية.

وتبلغ الرمزية ذروتها في مشهد يؤسس لفلسفة التكامل: “الماءُ والنار يندمجان في ألم لحبّ واحد”. هنا يتحقق الحلم الصوفي للوحدة، حيث تلتقي المتناقضات في لحظة روحية متعالية. الاندماج بين الماء والنار يمثل تجاوزاً جذرياً لمنطق التضاد. فالعناصر المتباينة لا تلغي بعضها، بل تكشف عن جوهر مشترك يتجاوز الاختلاف الظاهري. إنها لحظة ولادة جديدة للوعي، حيث تصبح الثنائيات جسوراً للتواصل والتكامل. هذا المشهد الشعري يؤسس لرؤية وجودية عميقة، مفادها أن الاختلاف ليس نهاية، بل بداية للتلاقي. فالماء والنار، والضوء والظلمة، والذات والآخر – كلها تحمل في جوهرها إمكانية الوحدة والتناغم.

حضر الضوء في القصيدة بداية من خلال صورة “زرقة الشعلة” التي تشكل علامة دلالية فارقة في النص. فاقتران الزرقة، وهي لون السماء والبحر والأفق المفتوح، بالشعلة يؤسس لبعد معرفي وروحي عميق. يقول الشاعر: “يتهادى تحت زرقة الشعلة”، حيث تصبح الشعلة الزرقاء رمزاً للمعرفة السماوية المتعالية، وإشارة إلى النقاء والصفاء الروحي. هذا اللون غير المألوف للشعلة يكسر أفق التوقع ويفتح النص على دلالات تتجاوز المادي إلى الروحي، حيث يلتقي عنصرا النار والماء في تشكيل جديد يرمز إلى الوحدة الكامنة في قلب التناقض.

يتجسد الضوء في صورة المصباح في تجلٍ شعري حيث يعلن الشاعر في لحظة إبداعية متوهجة: “أنا قوسُكِ والمصباح، مصباحُكِ والقوس”. هذه العبارة تؤسس لمشهد رمزي معقد يتجاوز حدود المرئي إلى عوالم الرؤية الروحية. المصباح هنا يتحول من مجرد أداة إضاءة مادية إلى رمز معرفي متعالٍ. إنه مصدر للهداية والإرشاد، حامل مشعل التنوير في رحلة الوعي الإنسانية. والقوس يصبح رمزاً للحركة والسعي، للرحلة المستمرة نحو المعرفة والكشف. يخلق التداخل بين المصباح والقوس جدلية عميقة بين الثبات والحركة، بين نور المعرفة الثابت وحركية البحث المتواصل. فالمصباح يمثل نقطة الإضاءة الداخلية، بينما يجسد القوس رحلة البحث المستمرة عن المعنى والحقيقة. تختزن هذه الصورة الشعرية فلسفة وجودية متكاملة، حيث يصبح الإنسان في آنٍ واحد حامل المصباح وراسم القوس. إنها لحظة من التوحد بين الذات والمعرفة، حيث تتلاشى الحدود بين الرائي والمرئي، بين الباحث والمبحوث. المصباح والقوس يشكلان معاً منظومة رمزية متكاملة للكشف والسعي الروحي. فالمصباح يضيء درب المعرفة، والقوس يمدد آفاق البحث، في رحلة مستمرة نحو استكناه أسرار الوجود.

تبلغ رمزية النار أوج تجلياتها في لحظة شعرية متوهجة، حيث يتحول اللهب من مجرد عنصر مادي إلى قوة وجودية متعالية. يصرخ الشاعر مستنجداً: “أيتها اللهب الذي ينقذُ العالمَ من الخراب، وينقذني من العدم”، محولاً النار إلى أيقونة الخلاص والتجدد.  تؤسس هذه الصورة الشعرية لمفهوم عميق للنار كطاقة تحولية، تتجاوز قدرتها التدميرية لتصبح أداة للخلق والتجديد. فاللهب هنا يحمل رسالة الخلاص الوجودي، يمحو الخراب ويقاوم العدم، منحاً الإنسان والعالم فرصة للولادة من جديد. يتعمق البعد التنويري للنار في علاقتها بالكتابة والإبداع، حيث يناجي الشاعر “لهب الكتاب وشعلته”، محولاً النار إلى قوة معرفية خلاقة. فالإبداع هنا يصبح امتداداً للتجلي الروحي، وعملية الكتابة تتحول إلى طقس تنويري يحمل بذور التغيير. وفي لحظة شعرية مكثفة، يقول: “تحمّرُ اللحظات بيننا”، حيث تصبح النار رمزاً للتجربة الروحية العميقة. إنها لحظة انصهار، يمتزج فيها الحسي بالروحي، وتتحول اللحظة إلى مساحة للكشف والتجلي.

يرتقي الشاعر في لحظة شعرية متعالية إلى ذروة التجربة الروحية، حيث يناجي الضوء بوصفه تجلياً إلهياً، متوسلاً في صرخة روحية مفعمة بالخشوع: “أيتها الخارجة من قلب الله اغمريني بشعاعكِ”. تؤسس هذه المناجاة جسراً معرفياً بين عالمين: عالم المحسوس وعالم المتعالي. فالشعاع يتحول من مجرد ظاهرة فيزيائية إلى وسيط روحاني، يحمل في طياته رسالة التطهير والتجلي. إنه لحظة اندماج بين الذات الإنسانية والجوهر الإلهي، حيث تذوب الحدود وتتلاشى المسافات. يصبح الشعاع هنا رمزاً للنور المعرفي والروحي، يحمل قدرة التحول والتنوير. فهو يخترق الظلمات الداخلية، مطهراً الروح من أدرانها، وموصلاً الإنسان إلى مرتبة الإشراق الروحاني.  تختزن هذه الصورة الشعرية في طياتها رحلة روحية كاملة، حيث يتحول الشاعر من موضع المتلقي السلبي إلى مقام المستنير المتحول، الباحث عن لحظة الاتصال بالمطلق.

تكشف قراءة قصيدة “افتتاح” عن عمق الرؤية الشعرية لزعيم نصار، حيث يتمكن من تحويل العناصر الطبيعية البسيطة إلى منظومة رمزية معقدة. فرمزية الماء والنور والنار تتجاوز في هذه القصيدة كونها مجرد صور شعرية، لتصبح أدوات للكشف الوجودي والروحي. يؤسس الشاعر عبر هذه الرموز لفلسفة تقوم على وحدة الوجود، وقدرة المتناقضات على التكامل والتلاقي. فالموجتان والمرآة والنبع والشعلة تصبح جميعها مفاتيح لفهم أعمق للذات والكون، وللعلاقة المتشابكة بين الظاهر والباطن، بين المادي والروحي. وهكذا تتحول القصيدة إلى رحلة معرفية وروحية تدعو القارئ إلى التأمل في جوهر الوجود وأسراره المتعددة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة