أشواق النعيمي
في مسرحية « بيكيت « حمل ثقل الانتظار اثنان . وفي مسرحيتي حملت الثقل وحدي فيا لي من مجنون . بتلك العبارات يختزل السارد حكايته في رواية « لقلق النبي يونس ومخطوطة التاريخ الآخر « للروائي محمود جاسم عثمان النعيمي .
عبث الانتظار إذن ثيمة النص الموازية في استدراج نوافذ التاريخ المطلة على أزقة الكوفة وبيوتها ومدارسها وساحاتها لاسترجاع الأحداث ومساءلة الماضي عن صحة أو كذب بعض الوقائع والأحداث ومحاكمته في مواضع يسمح للتاريخ فيها بالتحول إلى صوت افتراضي يرد ويدافع عن نفسه بحدة فينحاز الحوار إلى أسلوب المحاكمة العكسية التي أُجبر فيها التاريخ محاوره على الاحتكام إلى العقل بعيدا عن التنظير والغيبيات غير المنطقية .
يتخذ السرد من إعادة تشكيل العقل في قراءة التاريخ غاية يتباطأ فيه الحدث في مشاهد جدلية تسعى للتأمل والحفر بعمق في أنساق الحضارة الكوفية نشأة وتطورا وتأثيرا على الحواضر الأخرى ، وتوظيف التراكم المعرفي في صياغة رؤية واعية ومغايرة للمفاهيم والموروثات.
انتظار البطل الإشكالي لوهم الحب الذي اصطنعه لنفسه وظل على أمل التحقق لعله يغير مسار حياته كان عبثا حقيقيا يشبه انتظار غودو العبثي في مسرحية « بيكيت « ، ولا يختلف كثيرا عن خيبة انتظار دور المثقف في تغيير حالة المجتمع الذي يشبه بدوره انتظار زحزحة لقلق منارة جامع النبي يونس في استعارة صورية للأسطورة والخرافة الشعبية في المجتمع الكوفي التي سادت صفحات التاريخ زمنا طويلا . يعلن السارد واقعة موت اللقلق بداية نهاية الأسطورة وانحسارها لصالح الحقائق ، وبداية مرحلة مغايرة تستند إلى الواقع أطلق عليها « التاريخ الآخر « الذي يأمل في جيل الشباب حمل لوائه .
يرتبط العنوان الفرعي للنص « التاريخ الآخر « بعبارة « العقل المغاير « ارتباطا ديالكتيكيا يضع الطبقة المثقفة في مستوى المسؤولية لتوليد فكر نقدي يعمل على هدم مستويات المعرفة الإشكالية وإعادة تشكيلها وفق رؤية فلسفية مغايرة تستند إلى المنطق في تناول المخفي والغيبي وتحريك سكونية بعض المسلمات و « غير المسموح التفكير فيه « التي تعيق وصول الحقائق العلمية إلى مستوى التفكير العقلاني . خيبة ظن جديدة تضاف إلى خيبات البطل في انتظاره لمرحلة النضج الذي يفترض بالعقل المغاير أن يكون من مخرجاتها البديهية ، تطرح الرواية تساؤلات مشروعة عن جدوى تلك المرحلة إن لم تنتج عقلا مغايرا يعيد صياغة الحياة بأسلوب مختلف ، وعن دور المثقف الملتزم في كتابة تاريخ مغاير ومحاولة فهم وتفكيك جدلية ( الوعي والخبز ) التي أسهمت بتعطيل الوعي الجدلي عقودا ، والدعوة إلى تفاعل العقل مع المحيط الاجتماعي وفق المناهج العلمية والمنطقية ، وتوظيف الحركة الفكرية في تحقيق التوافق مع الآخر الطرف الثاني في معادلة الوجود الإنساني . تستعين الرواية بأسلوب المحاورة العقلانية بين « نحن والآخر « لتمرير رؤيتها تجاه سلبيات المجتمع المتجذرة في عمق ماضيه ومحاولة استئصالها وهدم ما اسماه بالقوقعة وهي الوجه الآخر المنافي للتاريخ التقدمي ، وتناظر بين وعي الجماهير النقلي والوعي العقلي والصراع غير المتكافئ بينها لصالح الأغلبية الرافضة لمبدأ المساس بالمنقول الثقافي والديني الذي أسفر عن صراعات مجتمعية مازالت قائمة كنتيجة حتمية لذلك الاختلال ، في سؤال جاء على لسان السارد العليم « لماذا تخلت النخبة المستنيرة التي تؤمن بالعقل عن دورها التاريخي ، وتركت زمام الأمور بيد شيوخ النقل كي يقودوا حركة الوعي الاجتماعي ؟»
يتوسل السارد العليم بالذكريات والاسترداد الصوري بوصفها وسيلة موثقة لاستعراض ماضي مدينة الكوفة الملازمة لطفولة شخصية البطل وشبابه ، تستدعي الصور العشر المتسلسلة في محتواها بعض أزقة الكوفة ودكاكينها وأعيانها مستعرضة أبرز يومياتها . كما تعمل صورة الأب التي توسطت جدار الغرفة كجهاز عرض سينمائي يبث مشاهدا استرجاعية طويلة ارتبطت بحياة الأب ودارت أحداثها وسط المجتمع الشعبي الكوفي آنذاك . مارست الصورة سطوتها على الابن وتاليا الحفيد الذي عدها إيقونة تاريخية وتعويذة روحية أضفت عليه السكينة وألهمته القراءة وقادته مرات عديدة نحو مسالك المعرفة « كانت كفيلة في أن تبدد كل هذا الخوف والتردد ، فأبدأ أقرأ العنوان ، ثم السطور الأولى ، ثم اذهب إلى الصفحة الثانية والتي بعدها ، وبعدها وهكذا « ينهض النص في مجمله بالمقارنة الجدلية بين ماضي وحاضر المكان ، فتميل كفة المقارنة للأمس في مواضع عديدة يرفض فيها تزييف واقع بعض الأمكنة باستلاب هويتها الحقيقة وتسليمها للأجيال اللاحقة بهيئة مختلفة عن ما حفظته ذاكرة التاريخ وتناقلته الروايات .