في مكابدات الحافي للشاعر عبد الأمير خليل مراد

الموسيقى وروح المعنى لقصيدة النثر

محمود خيون

من يتوغل في نتاج الشعراء المشهورين يكتشف أن المعاناة مصدر الإبداع….صحيح أن العذاب يتعب الفنان،ولكنه وحي النتائج التي خلدت صاحبها في عالم الخلق والتأليف، ذلك أن التعبير عن المشاعر وليد تفريغ الشحنة العاطفية ذات الطبيعة المؤلمة، من هنا اشتهر قيس وليلى وجميل بثينة ورمييو وجوليت، إضافة إلى كوارث شمشون ودليلة، وانطونيو وكليوبترا..وبحسب وصف الباحث الدكتور خريستو نجم في بحثه( معاناة الشاعر مصدر الإبداع ) …ويضيف الباحث بأنه…لاشك في أن تأريخنا المعاصر تراجع أحيانا عن العظمة التراثية بدليل التخلي عند بعض الشعراء العرب، عن العروض والقوافي، واختيار الغموض في الكتابة…كل ذلك من أجل تقليد العالم الأجنبي…بيد أن هذا التجدد أفقد الناس اهتماماتهم بالشعر الحديث، ،مع أن الكثيرين لايزالون يرددون شعر نزار قباني لأنه حافظ إيقاع أبياته ومعانيه التي يفهمها المستمع ويطرب بها….ويضيف الباحث الدكتور نجم…لاننكر أن شعر التفعيلة في الأدب الحديث يتصف بالروعة والجمال ذلك أن التفعيلة تحافظ على القوافي والنغم الصوتي…لذاك يتجاوب الكثيرون مع هذا الإتجاه بخلاف القصائد النثرية والأشعار الغامضة…أن فقدان الموسيقى أو عدم إكتشاف المضمون لا يثير عاطفة الإنسان، وهذا ماقاله أيضا الشاعر الأجنبي بول فرلين…( عليك بالموسيقى قبل كل شيء، ثم بالموسيقى أيضا ودائما…واثبت ذلك الشاعر ادغر الن بو قائلا…وما الشعر إلا ضرب في الموسيقى…)…
ومن هذا التحليل لماهية الشعر والقصيدة والترابط الجدلي والفني في جوانبها الأساسية وبزوغ روح المعنى المراد إيصاله إلى القاريء الاعتيادي أو الدارس أو المتذوق للشعر…نرى أن هناك ضرورات ملحة تتطلبها عملية الوضوح والابتعاد بالقدر المستطاع عن الغموض والرمزية التي تعرقل عملية الفهم والتذوق لدى القاريء..
صحيح أن نظرية الخروج عن قاعدة الوزن والقافية وتجاوز علم العروض، يعطي الشاعر مساحة أكبر، يحرك بها أدواته ويرسم مايريد من صور متجددة لكتابة هذا النوع من الشعر والذي أطلق عليه شعر الحداثة أو قصيدة النثر التي روج لها أدونيس امتدادا لنظرية الغرب، لكن تبقى روحه مرهونة بموسيقاه ورصانة اوزانه..
وفي ديوان (مكابدات الحافي).. للشاعر عبد الأمير خليل مراد، أمثلة كثيرة تتحدث عن تخلي الشاعر من قواعد القصيدة المرتبطة ببحر وقافية ووزن، حتى أنها تفقد في بعض الاحايين موسيقاها، وله الحق في ذلك لأنه يكتب هذا النوع من الشعر… وفاتني أن انوه بأن ديوان( مكابدات الحافي ) تخضع أغلب قصائده للوزن من دون التقيد بتكرار القافية وعدد التفعيلات مثلما فعل نزار قباني ورشيد مجيد والسياب… في قصيدة
(تهجدات في حضرة الذبيح)
..يتجسد ماتقدم جليا بالوصف..
(لم أسأل عن هذا القلب المجروح
عن سبط يمشي مذبوحا
في يده كون أبيض وحمامة
بوح وسلام
تتبرج في هذا العالم
وهي تضوي رايات العشق
وأخرى تتويجا لبنى الإنسان )

إلا أننا نرى الشاعر عبد الأمير خليل مراد يتراجع عن قراره في الاستمرار بقصيدة النثر المركز، ويعود لإستخدام الموسيقى والإيقاع في قافية موحدة ينتقل بها ليصف من خلالها معاناته ومن حوله من هذا الواقع المرير الذي يعيشه قائلا…
(هذي أيام حبلى بالاسرار الممهورة
بالخوف
وشقشقة الغرفات السرية
هذي أجيال تتأود بين شأبيب الكوثر
ومضامير الهيجاء الازلية ).

على الرغم من أنني أعرف الشاعر منذ مطلع الثمانينيات وعملنا سوية في مجال الإشراف اللغوي والثقافيات مع زملاء اعزاء وشعراء ،يونس ناصر عبود وحاتم عبد الواحد وعادل الشرقي وخليل الأسدي
وغيرهم ممن قدموا خدمة لمسيرة الثقافة والإبداع وقتئذ
…اعرفه من الشعراء الذين يمتلكون أدوات الشعر الموزون الذي تحكمه القافية والتفعيلة والبحر.. الا أنني وجدته في هذا الديوان يتحرر بمساحة ليست بالشاسعة عن قواعد القصيدة العروضية وهذا الأمر طغى اليوم على معظم قصائد الديوان(،مكابدات الحافي) الذي قذف مدرعته وهام في الشوارع وهو يصرخ….أنا الحافي…. )…

(أنا بشر الحافي

الحزن ضميري الحافي
والدنيا كم رسمت
في عيني شقاء
حتى أضحى من سحنة اوصافي
اضمنتي الدنيا وسقتني
صررا من شوب مر
ورمتني في دوحة اطياف
اتشظى عصفورا مذبوحا
بين هدير القسطل أو زفرات الاسياف )

ونرى الشاعر بعد هذا … يفتح لنا نافذة أخرى من نوافذ معاناته وكبته ومراراته وحسراته والمه عندما يتحدث إلى (جواد سليم يعود من جديد )..
وكأنه يريد ان يذكرنا بالحرية وحلم تحطيم القيود وزنزانات الموت والقهر والعذاب قائلا …

ليهنك أنني في ساحة
التحرير
امرغ وجهي المقدود بالحناء
والرجوى
واقرأ في بقايا عمرنا
المأسور:
موطني…موطني

أقول أن الشاعر عبد الأمير خليل مراد له هويته في كتابة الشعر ويمتلك قدرة في التنوع والتنقل بأفكاره بحرية تامة وهو الوحيد من بين الشعراء الذين جسدوا معاناتهم ومعاناة الناس من حولهم وهم يمارسون طقوسا لم يجنوا منها غير المزيد من الخيبات و الانتكاسات وكأنه يذكرنا بروائع السياب ورشيد مجيد وحميد سعيد وفاضل العزاوي وفوزي كريم وخالد علي مصطفى وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة وبلند الحيدري ومحمد البريكان وغيرهم….
يحضرني وصف الناقد الكبير فاضل ثامر هذا الجيل من الشعراء…أنه ولد في ظروف صعبة حيث وجد الشاعر الستيني نفسه وحيدا ومعزولا ومحاصرا، لذا شعر أن مسؤولياته أن يخوض المعركة لوحده في مواجهة قوى الاستبداد والعنف…
ومما تقدم نستطيع القول بأن الشاعر عبد الأمير خليل مراد في( مكابدات الحافي )..خلق وعيا متجددا في كتابة القصيدة من الشعر الحر ذات الإيقاع والرنة الموسيقية وبحرفية ومهنية جادة، والتي طغت على معظم قصائده التي صورت لنا في حكائيات ايحائية وموجزة لحجم الكوارث التي حلت بالبلاد وراح ضحيتها الكثير من الناس الذين لم تتحقق من احلامهم البسيطة أي شيء يذكر…غير أنهم كسبوا هالة من الحزن والألم والمزيد من المتاهات والركض وهم حفاة وراء سلسلة من السراب المخادع.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة