فن الشطرنج .. ولعبة الحياة

تدخل في حياة الإنسان سلسلة متشابكة ومعقدة من المصادفات، فكثير من الاحداث تدخل حياتنا عن طريق الصدفة التي قد ترسم قدرا للإنسان يمتد معه عمرا ً كاملا ً، وقد تكون الصدفة هي الحد الفاصل بين زمنين، أو عدة أزمنة تقسم حياة المرء إلى شخصيات متعددة .فلكل مرحلة زمنية شخصية مختلفة عن المرحلة التي تسبقها أو تليها، ولكل مرحلة فكرها الخاص، ووعيها الخاص، ولكل وعي مؤشر يتذبذب بين اللذة والألم، فالإحساس بعمق الألم يزداد مع تقدم الزمن يقابله خفوت في الإحساس العميق باللذة، والرغبة التي تفقد براءتها ودهشتها الأولى.
بدأت حياتي مع الشطرنج قبل أكثر من خمسة عشر عاما ً، عندما قادتني خطاي إلى أحد المقاهي في ظهيرة قائضة من صيف السليمانية، لأرى مجموعة من الأشخاص منكبين على الرقعة يحللون دستا ً من دسوت أحد أبطال الشطرنج، فوجئت في وقتها لأن ثقافتي الشطرنجية آنذاك كانت متواضعة ومحدودة جدا، ولم أكن لاعباً كما أنا عليه اليوم، وكنت أظن أن لعبة الشطرنج هي مجرد لعبة للتسلية كالنرد والدومينو يلعبها لاعبان والأذكى هو الذي يفوز، ولم أدر في حينها أن الشطرنج هو فن وعلم، فن لأنه يقترب من عظمة الإبداع في الشعر والموسيقى والفن التشكيلي، وعلم لأنه يعتمد على مبدأ الجدل الفلسفي ووجود قضية دائما ً تحتاج إلى حل . رغم أن جغرافيا الشطرنج محدودة بأربعة وستين مربع، ورغم المنطق، ومبدأ الحسابات العقلاني الذي يدخل في هيكل اللعبة وصميمها؛ إلا أن المخيلة البشرية يمكنها أن تمتد خارج هذه المساحة إلى آفاق واسعة ولامحدودة، لتعود إلى الرقعة وواقعها القاسي، ففي الشطرنج تمتزج الفانتازيا و السحر مع المنطق والعلم، وكلما تقدم الزمن يقف العقل البشري عاجزا ً أمام هذه اللعبة وغموضها، وحتى علم النفس يدخل في الشطرنج فكل دست هو مرآة داخلية لصاحبه.
لو أتقن أطباء النفس لعبة الشطرنج لاستطاعوا فرز الأشخاص وتشخيص سلوكياتهم.
لأن هذه اللغة الصامتة في الكثير من جوانبها هي تعبير عن رموز اللاوعي الإنساني من خوف وقلق وعدوانية ،وترقب الفرص للانقضاض على العدو.
يقول الأديب الروسي تولوستوي : «إن الشطرنج فن يمنح الإنسان السعادة»
وأنا أضيف لما قاله تولستوي وبروح نيتشه القتالية: إن السعادة النابعة من الشطرنج هي عبارة عن شعور الفرد بتنامي القوة وتعاظمها في داخله.

بعد أكثر من خمسة عشر عاما ً قادتني خطاي مرة أخرى إلى نفس المقهى القديم
حيث الصدفة التي جعلتني أصاب بعدوى الشطرنج التي لا شفاء منها
بين ضجيج الزبائن وطقطقة الكؤوس، ارتسمت سحابة كبيرة من الدخان
تذكرت كل الأحداث التي مضت بلحظة واحدة، وكأن الذاكرة أرادت أن تفرغ شيئا ً من حملها الثقيل.
خلف سحابة الدخان كنت أنا جالسا ً على نفس الطاولة متأملا ً بعمق دستا ً معقدا ً من الشطرنج ،كانت المعضلة على الرقعة ستحل بحركة واحدة مفتاحها عندي الآن، لم اعرفها في حينها، ولم تخطر على بالي، رأيت نفسي من داخل نفسي كنت خارجا ً من الزمن وداخلا ً فيه.
حاولت التلميح بالحركة الصحيحة أردت لعبها بنفسي.
لكن يدي لعبت نفس الحركة السابقة، الحركة الخاطئة نفسها قبل خمسة عشر عاما ً
هكذا ما زالت أكرر أخطاء الأمس، لتستمر الحياة.
دون أن تنتهي اللعبة………..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة