محمد زكي ابراهيم
يلتقط أمير الشعراء أحمد شوقي حادثة طريفة، يقوم فيها قيس بن ذريح بالتوسط لصديقه قيس بن الملوح عند حبيبته ليلى. وحينما يلتقي بها، هي وصديقاتها، عند كثيب أو رأس نبع، يتضاحكن منه، ولا يكترثن لوجوده. فيتساءل مع نفسه (ما الذي أضحك مني الظبيات العامرية/ ألأني أنا شيعي وليلى أموية؟/ فاختلاف الرأي لا يفسد للود قضية!). وقد تداول الناس البيت الأخير بكثير من الإعجاب، حتى بات مثلاً رائجاً على الألسنة، في زمن التعددية، والرأي الآخر. وربما كان أحد أهم مقولات هذا العصر، الذي كثرت فيه الأمثال والحوادث والأقوال.
إن هذه الحادثة واحدة مما تمتلئ به الكتب القديمة من روايات وأخبار. وبسبب ذلك كانت عظيمة النفع، واسعة الانتشار. وقد عمل أصحابها على جمع هذه النتف من هنا وهناك، فحفظوها من الضياع، وقدموا لنا مادة جميلة وسائغة. لكن أكثر من اعتنى بها المنظرون، والمؤرخون، ورجال السياسة، وعلماء الاجتماع. فهي المادة التي بنوا عليها اجتهاداتهم الحديثة. وما كان بإمكانهم أن يخرجوا بأي استنتاج لولا توفر مثلها بين أيديهم.
وقد كثرت في هذا العصر الكتب التي تروي أخباراً كهذه. ومن أهمها التراجم والسير الشخصية وكتب الرحلات. وهي كتب رائجة ومطلوبة. فعدا عما فيها من دروس، وعبر، ومعلومات فإنها تزخر بالمتعة والغرابة. وكثيراً ما بنيت عليها أحكام وتصورات. فالتجارب الإنسانية هي في الواقع أثمن ما يمكن أن يحصل عليه المرء في هذه الحياة.
لكن الأمر لم يكن بهذا الوضوح دائماً، فهناك الكثير من الكتب التي تصدر هذه الأيام، متضمنة حوادث مكررة أو شبه مكررة، لوقائع تاريخية أو سياسية أو اجتماعية جرى تداولها في العديد من المصادر، مع بعض الإضافات القليلة. وربما كان الدافع على وضعها هو الرغبة في التأليف أو الانتشار مع الفراغ وقلة المحتوى. ومثل هذه الكتب تواجه دائماً بالإعراض لأنها لا تقدم ولا تؤخر. وقد يكون معظمها من الشائع الذي يصادفه الناس، أو يعترضهم كل يوم. لكنها في واقع الأمر ذات مدلولات مهمة. فالحقائق العلمية لا تتكشف لوحدها بل تمر بمراحل ومحطات. وهي تخضع دائماً للنقد والمراجعة. وتعتمد في الأساس على جنود مجهولين تستهويهم عملية التأليف والنشر.
من يدري فربما تكون مثل هذه الكتب التي ينظر إليها البعض شزراً مادة أساسية لظاهرة من الظواهر، لدى دارسي التاريخ أو الاجتماع أو العلوم الأخرى في المستقبل. يستوحون منها ظواهر لم تبد لنا الآن ذات أهمية. تماماً مثلما فعل أحمد شوقي في قصة قيس بن ذريح وهو يتجول في بوادي بني عامر، بحثاً عن مدللة صديقه المجنون. ويخرج لنا واحدة من أهم قيم ما بعد الحداثة، أي الاعتراف بالآخر، واحترام معتقداته، وعدم التعصب، أو الانغلاق الفكري. في ما عدا كونها قصة جميلة تأخذ بمجامع القلوب، وتثير البهجة في النفوس.