موج يوسف
يستطيع الشاعر أن يعطي معنى جديداً للموروث الثقافي الذي عهدناه سابقاً وقُرأ وأُستعملَ كثيراً حتى وصل إلى مرحلة الاستهلاك، لكنَّ الرؤية التي يطرحها الشاعر هي التي تضيف معنى يحدد الهوية. ولا ننسى أن الثقافة تفصح عن هوية صاحبها أو المجتمع فهي انعكاس للهويات، وهذا يعني أننا لا نستطيع أن نهملَ التراث؛ كونه أحد عناصر الهوية لأن الأخيرة مفتوحة وتحدث لها تغيّرات متنوعة.
وفي الأعوام الأخيرة يمكن القول إنَّ العراق فقد هويته الثقافية حين تعرضت للتدمير، فالآثار التي سرقت من المتاحف العراقية، والمخطوطات النفيسة، والتدمير الأخير الذي حدث على يد داعش في متحف الموصل، وسرقة ما تبقى، وهدم المعالم الأثرية، فهذه كلها هويات ثقافية مؤخراً تعرضت للتمزيق.
لكنّ في المجموعة الشعرية للشاعر عارف الساعدي “آدم الأخير” الصادرة مؤخراً نرى الشاعر قد استطاع بناء تلك الهوية عبر توظيفه للتراث في قراءة صيرورة الحداثة، إذ جاءت الهوية الثقافية في شعره منسجمة مع سمة المرحلة ومنطق الحياة والتغير.
وفي قصيدة آدم الأخير نرى توظيف الموروث الثقافي وفق رؤية ولغة حداثوية، إذ يقول:
آدم يسخرُ من حيرته الآنَ
ويستلقي على ظهرِ جدارْ
هل تُرى سوف يُعيد اللهُ
نفس اللحظة الأولى
ويُعطي آدم الأسماءَ
كي ينجح في الدرس
على الملائك …؟
أم ترى آدم لا يعنيه هذا المتاه الغضِ
إلا أن يرى طيفاً لمقهاه القديم.
ممّا لا شك فيه أن ثقافتنا المعاصرة تعاني من أزمة هوية، كما أسلفنا ولا سيما بعد سيطرة الاسلام الراديكالي عندما واجه باقي الثقافات الغربية بالتضارب والقطيعة، وظل محافظاً على التاريخ متعايشاً مع الماضي، فدخلت الهوية بالتفكيك والتمزيق، فقصيدة “آدم الأخير” صنعت هوية معاصرة وكونية نابعة من مرجعية الشاعر الثقافية، واستطاعت أن تُلغي الحدود السياسية بين الشرق والغرب؛ لأن آدم الأول كان ذا هوية إنسانية لا تحد بدين أو لغة او قومية، لكن آدم الأخير نجد هوية كونية ثقافية ذات رؤية مستقبلية نابعة من صراع الشاعر الذاتي واغترابه لما سيحدث لاحقاً، ويمكن أن نطلق عليها “حيرة آدم الأخير”.
بينما في قصيدة “قتيل الخضر” يطرح الساعدي الموروث الثقافي القديم وفق حداثة اليوم إذ يقول:
هوية معاصرة وكونية
أنا تائه يا إلهي
لماذا بعث العجوز ليقتلني
كان يكفي بأن توقظ النهر ليلاً
وتسحبني نحوه بخطىً باردة
كان يكفي بأن تأمرَ النهر
يشربني دفعة واحدة
ففي ظروف التمزق الطائفي والتشتت القومي، والجهل والظلام نلجأ إلى التراث لنستلهم منه قبل كل شيء الأفكار وإطلاقها في رؤية شعرية لتعزيز الهوية الوطنية، وهذا ما نراه في “قتيل الخضر”, إذ أن قصته مشهورة، وذكرت في التاريخ والكتب السماوية فجاءت في آخر الكتب الدينية (القرآن الكريم): “وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفرا” سورة الكهف.
الدين أحد أركان الهوية عند أكثر الباحثين، لكنني أرى أن لا يكون هوية انتماء بقدر أنه حاجة روحية، لأنه قسّم الأمم إلى قسمين: الأول مؤمن، والثاني كافر، وكلّ ومن يتعارض مع الأول يصبح عدواً، وهذه الفكرة التي انطلقت منها الكنيسة في الغرب إلى أن تصالحت مع الآخر، وهي قائمة اليوم عند الإسلام الأصولي، فالغير مسلم عدو وفي النار، وغلام الخضر قُتل بسبب كفره بالرغم من كونه فتى، ولا يملك الوعي التام والنص الديني قال مبرراً قتله (خشينا) والتي معناها توقع مكروه في المستقبل، وقد لا يقع، ومع هذا أنه قتل وهذا يعني إقصاء للهوية الأخرى، لكن الساعدي في القصيدة عمل على استنطاق شخصية الفتى، وجعلها تخاطب الربّ الذي بعث العجوز ليقتله، فكان بإمكانه أن يرميه في النهر، والفتى هنا هوية الشاب الذي يقتل بسبب انتمائه الديني أو المذهبي، والشاعر بهذا الموروث الثقافي قد تحرر من باقي الهويات وسلط الضوء على الإنسان والمواطنة.
وفي قصيدة “من ذاكرة العشاء الأخير” يقول:
سلِّمْ عليها، وقلْ للآن لم يمتِ ** للآن يضحك في زهوٍ وفي ثقةِ
وقل لها تترك الأبواب مشرعةً ** فقد أجيء ونصف الليل في شفتي
إلى قوله:
ولتستريحي قليلاً أنت واقفةٌ ** منذ البكاء فديري الوجه والتفتي
وعاتبي “طاسة الماء” التي انسكبت ** خلف الخطى واسأليها ربما سهتِ
المناخ العام للقصيدة يشير إلى قضية الفداء والعشاء الأخير لليسوع قبل الصلب لكن الشاعر وظّف هذا الموروث الثقافي بطريقة معاصرة تنطبق على طقس التضحية والفداء للشاب العراقي الذي يقتل من أجل تحرير الوطن ولاسيما في حرب داعش، فالمشترك بين الاثنين (اليسوع والشاب العراقي) هو التضحية فهما قتلا بسبب السلطة الحاكمة، فيسوع صُلب بسبب حكم الطبقة اليهودية الممتلئة بالخوف من أن يقدح ذلك المنبر بصورة مخفية وحركة عصيان تحطم السلطة الرومانية.
وفي عصرنا الحالي وقع يسوع العراقي ضحية السياسة الخاطئة التي أخذت شرعيتها القانونية من الدين، فأصبح الشاب فداء وضحية وحامي لوطنه، ونرى أن يسوع هوية الشاب الضحية، كذلك لا نغفل عن توظيف الشاعر للموروث الآخر (طاسة الماء) في القصيدة التي تعبر عن سكب الماء بعد المسافر لضمان عودته، وهذا الموروث الثقافي يعود إلى الإله إنكي إله المياه العذبة في الحضارة السومرية والبابلية، وهذا يعني عودة الشاعر إلى جذور الهوية العراقية ذات الحضارة والثقافة، وبناؤها وفق منظور ورؤيا معاصرة تتلاءم مع روح المرحلة. فالشاعر بهذه الرؤية فكّك بنية القديم بكلِّ أصوله وانصهرت في تجربته وفق سياق مختلف نتج عنه بناء لهوية ثقافية وشعر جديد.
*عن ميدل أيست أون لاين