علي سعدون
هذه رواية المقاربة التاريخية من خلال وقائع معاصرة.. وهذا ارباك اول في قراءة هذه الرواية.. ليس لأنها عمدت ببنيتها المكانية الى استثمار امكنة عمّان وتونس والسودان واسبانيا، قرطبة والاندلس، والمراقد التي تفيض روحها وتتعالق مع الناس، وليس لأنها جمعت شخصيات الرواية من بلدان عربية بعينها وتحدثت باقتضاب عن الحياة الداخلية والسرية لأبطالها بالإشارة المضمرة الاولى لتعضلات حيواتهم واحباطاتها التي تختلف من شخصية الى اخرى. ليس ذلك بالتأكيد سببا لارتباكنا في قراءة هذه الرواية ، انما لأنها سياحة معرفية وتاريخية لم تكن وليدة المصادفة والارتجال البسيط في اختيار نوعية الشخصيات والاشتغال بسببهم ودعواهم، انما كانت في صميم الجهد المعرفي والثقافي في رصد الواقعة العربية وتحليلها وتفكيك مقصديات نتائجها وتوظيفها في عمل روائي هو اقرب للاشتغال البانورامي اكثر منه في الاشتغال على الحكاية الطويلة التي تنتهي عند المحددات الشكلية لنمط كتابة الرواية.. انها مقاربة تريد ان تقول بالامتداد اولا، والتقصي ثانيا. رواية استقصائية تبحث عن علامة مضيئة وشاخصة في مضمرات التاريخ العربي وعلاقته بالراهن الملتبس الذي يشكل اكثر من عقدة في حياتنا.. وان حديثا سيطول عن تلك المضمرات المتعددة والمختلفة وسيتقدمها الانهيار الاخلاقي والحضاري وانحطاط القيم والشعور بالوجود واهميته الكبرى في الحياة . تلك القيم التي بزغت منذ بواكير وجود الحضارة العربية. ولنا في هذه الرواية «رواية دم الثور» مثالا شاخصا على ذلك.
يحيل العنوان الفرعي «الباب المفقود من كليلة ودمنة» الى نوع من اشتغالات الفنتازيا بسبب من سحرية وغرائبية حكايات الكتاب المعروف لابن المقفع/ اعني هنا على وجه التحديد، الحكمة والعقل والحكايا الممتعة التي تجري على ألسنة الحيوانات ، لكن الروائي نزار شقرون يغاير في هذا الاجراء فيجعل من رحلة البحث عن الفصل المفقود على وفق الاشتغالات الواقعية والاستقصائية في الرواية بعيدا عن افاق الغرائبي واللامعقول . وبتقديري البسيط هذه واحدة من الاجراءات التي تُحسب لشقرون في العتبة الاولى. اما العنوان الرئيس « دم الثور» فقد نافسته دلالة اكثر قوة واهمية على امتداد الرواية من مطلعها الى ختامها، وهي دلالة الرائحة / ثمة رائحة تنبعث في اكثر من موضع في الرواية ( روائح الامكنة، روائح الاضرحة، رائحة الكتب ، رائحة الدم، رائحة دم الثور، ورائحة العتاقة ، ثم رائحة الحريق ، تتبعها رائحة الحبر، ولن تنتهي تلك الروائح برائحة الورد) ثمة دلالة للرائحة في كل مفصل من مفاصل الرواية وبتكرارها في متونها وهوامشها بشكل لافت، سيخيل الى القارئ ان نزار شقرون نسي ان يسمي روايته بـ رائحة الدم او اي عنوانٍ قريب من هذا بسبب قوة الايحاء والدلالة التي تبثها الرائحة في الرواية. اقول ذلك على الرغم من تركيزه على حكاية «دم الثور» في غير مفصل واعتبارها كـ»سرّ من اسرار الحكاية الغامضة».. هنا سأتجاوز اشكاليات العنونة التي فيها من الاغراءات ما لايحصى.. إذ يمكننا ان نتحدث عنها طويلا.، بدءا من تمثيلات الواقع في هذه الرواية بتتبع اثر العنوان ودلالته، ثم مرورا بثيمة «دم الثور» في اكثر من موضع ومقارنتها بما تشيعه دلالات الرائحة من اهمية مفرطة في تتبع ذلك الاثر على تمثيلات الواقع.
هذه الرواية ذات اللغة المبهرة والمدهشة والممتعة عملت على تذكيرنا بان اللغة الادبية والمجازية التي يتخللُها التداعي لم تُستنفد بعد. اي ان تنظيرات ما بعد الحداثة التي تحرّض على اللغة التقريرية الخالية من التداعيات بوصفها لغةً مختزلة ومكثفّة وخالية من الزوائد . تذكرنا هذه الرواية ان تلك التقريرية لن تكون شرطا في انتاج رواية حديثة، وان التداعي واطلاق العنان للمخيلة لم يستنفد اغراضه بعد، وبالتالين فثمة وعي لافت في لغة هذه الرواية.، وعيٌ ينفتح على اسئلة وجودية ومصيرية في الحياة. هذه الرواية ستأخذ اكثر من توصيف في القراءة النقدية. وهي رواية اسئلة كونية تريد ان يتخضّب كل شيء بالسؤال / اعني الاسئلة التي تحفز القارئ : « سألت الف مرة لِمَ الشقاء والملايين تسعد بالحياة من دون اسئلة، وها هي كارمن تطلبُ رفقة طريق، وكلَ طريقٍ محفوف بالأسئلة» (ص61 الرواية). هذه الاسئلة تنطوي على اكثر من حافز يجعل القارئ جزءا من عملية التثاقف بالوعي الذي تخترقه هذه الرواية فتشكك بكل شيء، اقول كل شيء واعني على وجه الخصوص الحياة العربية التي فقدت بريقَها وسطوعَها واسئلتَها الكبرى واستحالت الى مدنٍ خاوية وحطامٍ يصعبُ توصيفَه او تحديد مستويات خرابه. هذه الرواية في الواقع، تنهمر اسئلتُها من وحي هذه الرؤية، فتسترسل كثيرا في ربط الرؤية التاريخية وتجعلها في مقاربة مع الواقع المعاصر. شقرون يعمد الى المقاربة الموضوعية في هذا المفصل ولا ينشغل بالمقارنة على الاطلاق، والفرق بينهما – اي المقارنة والمقاربة واضح وشاسع كما نعرف -.
هذا التمهيد ، تمهيد هذه الورقة لقراءة الرواية، قد يأخذ شكل المجاز اكثر من انحيازه الى القراءة المنهجية النقدية. تلك المنهجية التي ستعتمد منهج النقد الوصفي التحليلي لهذه القراءة بالاستعانة بمناهج اخرى نصيّة وسياقية ايضا بسبب من الموضوعة المركبة في هذه الرواية وسردها المركب ونتائجها المركبة ايضا. ذلك السرد الذي يبدأ برؤية او بحلم غريب بطله الشيخ او المارد او الجد الذي يصر بان ما يقوله حقيقة لا حلم. وهو حلم سيتفاعل معه سعدي / الشخصية الرئيسة وبطل الرواية وساردها الاوحد، مثلما ستتفاعل معها كارمن القرطبية من خلال وصايا الجد بمعنى تواشج الرؤيتين معا : حلم الجد عند سعدي ووصايا الجد عند كارمن. وهذا التناص في الرؤيتين هو الذي سيمهد لمشهديات ما بعده. وسيكون لهذه البداية قوة الصدمة بالإشارة الى موت العقل او العقل المقبور الذي يوصي الجد بضرورة ايجاده والعثور عليه بمقاربة لربط مصيرهما معا بغية الامتداد لاستعادة تلك القوة التاريخية :» جُدع جزءٌ من انفي ايام الحروب الصليبية، وجزءٌ اخر يوم سقوط غرناطة ، وما تبقى لي من منخريَّ إلا آثار انفٍ بها اتنفس، ولا قدرة لي على شم شيء ، ولا يمكنني الوصول الى قبري الا بفضلك فاعنّي كي اجدَ مكاني ، ولا اظل طريدا في كل مكان. « ثم يستأنف « قبرك هو قبري ، ابحث عن قبر العقل ….. انا جدك الاكبر … ان لم تسرع سيكون مصيرك مثل مصيري ، ذراتُ ترابٍ بلا مأوى ، لغةٌ بلا معنى ، صوتٌ بلا صدى ، قامة بلا ظل ، شبه انسان او انسان ادنى..» « ليس القبر سوى صندوقٍ مقفل ، القبر كتاب …. الخ « (ص 8 الرواية).
(1) دم الثور – الباب المفقود من كليلة ودمنة، رواية ، نزار شقرون ، منشورات دار الوتد،ط1، الدوحة – قطر 2019