كوزموبوليتانية المكان في رواية “ليلة الحلم الايطالي” لـ ماهر مجيد إبراهيم

                                     د.عمار إبراهيم الياسري

شغل مفهوم المكان السرديات الحديثة التي انفتحت على معان عديدة بوساطة الحفر في جوانيات الشخصية وإرهاصاتها الوجودية؛ فلم يعد مفهوماً قاراً على وفق ترسيمة معينة؛ بل مر بتحولات بنيوية كبيرة مردها التحولات الفكرية التي حاقت بالمجتمعات مما جعل المخيال السردي ينأى بنفسه عن فحولة المكان التي ارتبطت بالذاكرة الشعبية مثل تمظهرات الصحراء في الشعر الجاهلي، فالمكان في الفلسفة الحديثة هو الوعاء الذي تتحرك به الشخصيات على وفق منظومة متشاكلة متعاضدة على الرغم من التنافر اللاهوتي والقبلي والسياسي والاجتماعي، لتتشكل من خلاله حياة مفارقة تخاتل السائد في بنية (كوزموبويتانية) لها دساتيرها التي تنظم الحراك الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في بنية المكان المعاصر.

تعد (الكسرة) من المناطق الشعبية في العاصمة العراقية بغداد التي تآزرت بها أثنيات وقوميات عديدة في حكايات صاخبة متنوعة، إن هذا المكان خرج من التوصيفات الفرعية نحو بنية شمولية مهيمنة، فهو السائد الذي تجوس به أبطال رواية ليلة الحلم الايطالي للروائي ماهر مجيد ابراهيم، إن البنية الشمولية التي أسس لها الراوي المشارك في الأحداث كانت بنية (كوزموبويتانية) ، بمعنى ذوبان هوياتها الفرعية وسط الاحتراب المناطقي المحايث لها، مثلما نلحظ ذلك في العلاقة ما بين البطل نبيل وعائلة (أبو أدريس) اليهودي و(علي فون) صاحب دكانة الهواتف و(رزوقي) بائع الشاي و(أبو أحمد) صاحب المطعم، وقد اجتهد الروائي في رسم بنية الشخصيات (الكوزموبويتانية) التي عملت على حركية الأحداث من جهة وكشف دلالة المكان من جهة أخرى بوساطة وصفه للأبعاد الفيزياوية أو النفسية أو الاجتماعية لها، ومثال ذلك وصفه لصاحب المطعم (ابو أحمد) في الصفحة الخامسة والثلاثين حينما يقول ” الجراوية البيضاء التي يعقل بها رأسه بها كما هم أسلافه السومريون، والوشم الذي يظهر على باطن يده اليمنى (أخ)” ولم يكتف الروائي بالوصف الظاهري فقط بل راح يتساءل عن معنى (أخ) ليصل من خلال الحفر في جوانيات الشخصية عن كشفه للألم الداخلي الذي يعتريها، إن هذه البنية الشمولية التي رسمتها الذات الساردة قوضت الأمكنة المشوهة التي فرضتها الاحتلالات والطائفية والعنف مثل مقبرة الجنود الإنكليز بوصفها منظومة دلالية تشي بالماضي الاستعماري الذي أشتغل على توفير الارض الخصبة لنمو الهويات الفرعية، لذا عمدت على توظيف الفعل التقويضي المضاد للفعل الاستعماري عن طريق خلخلة البنية المكانية للمقبرة بعد أن ربطتها بالأفعال الإجرامية المشينة لعصابة (فلاح) الملاكم.

ولم يكتف الروائي في خلخلة مكان المقبرة؛ بل هناك أماكن عديدة حينما جعل من كاميرته السردية تجوس فيها مثل بيت (لقى) سليلة العائلة الارستقراطية في (الوزيرية)، فوالدها من أعيان البلد الذي أسسوا المنطقة وأصبحت مركزا لهم، فمن خلال هذا المكان المرتبط بالسرديات الكبرى همشت (لقى) الطبقات الفقيرة مثل ابناء الكسرة حينما خاطبت (نبيل) في الصفحة “الخامسة والتسعين بعد المائة” الفقير لا يفكر في بناء وطن، بل في كيفية ملء معدته”، لكنها تخلت عن سرديتها الكبرى حينما باعت البيت وعادت الى ايطاليا قبالة مركزية الهامش المتمثل بمنطقة (الكسرة)، وكذلك منطقة (الكرادة) حينما يقول في الصفحة الثانية والستين “لم أألف تضاريس الكرادة بسرعة، فارتباكي استمر حتى بعد هذه السنوات الطويلة” والملاحظ أن العنف والصبغة التجارية خلقت لدى البطل هذا النفور المكاني منها.

بعد أن تنحت الأمكنة الأخرى أمام (الكسرة) المكان المهمش الذي وجه ضرباته الداخلية نحوها بوساطة شموليته الهوياتية شهدت (الكسرة) تحولا بنيويا من الجزئية المكانية نحو الكلية المكانية المتمثلة بالعراق ليصبح الصراع المكاني متوثبا عن طريق نسقين: الأول تمثل بالوطن والثاني بالمهجر وقد تجسد هذا الصراع بوساطة هجرة (لقى) إلى ايطاليا و(أبو أدريس) إلى المانيا و(انسجام) إلى أميركا، فالشخصيات المهاجرة لم تستطع تأسيس منظومتها (الكوزموبويتانية) لعدة أسباب منها التشظي الهوياتي بسبب عدم قدرتها على الاندماج بسبب حمولاتها القبلية المتمثلة بالدين والقبيلة والسياسة والاقتصاد ومصداق ذلك الحوار الذي دار بين (نبيل) و(لقى) في الصفحة السادسة والتسعين بعد المائة، إذ يكشف لنا الحوار عدم قدرة (لقى) التخلي عن طبقيتها الأرستقراطية “أنت تسلبين الفقير إمكانية العيش بكرامة والتحرر والتطور ما هذه الطبقية ؟ لا يمكن تقسيم المجتمعات الواعية على أساس طبقي بغيض”، إن طبقات الحوار المعرفية تشي بالصراع ما بين مفاهيم فلسفية نسجها مخيال الروائي فكثير من الفلسفات السالفة تقسم المجتمع إلى طبقات، ففي جمهورية أفلاطون قسم المجتمع إلى طبقات مثل الأمراء ثم المحاربين فالحرفيين لكن الفلسفات الحديثة مثل (النيتشوية) كانت تهتم بالإنسان كقيمة عليا لذا دعا إلى الانسان (السوبرمان)، فالصراع الفلسفي ما بين (نبيل) و(لقى) بين انعدام التفكير (الكوزموبويتاني) الذي يسيطر على وعي (لقى)، في حين لم تستطع (انسجام) من نسيان بغداد على الرغم من وجودها في (أمريكا)، فالمكان بالنسبة لها ليس وعاء للطبيعة والبيئة والموجودات التي يحكمها نظام معين؛ بل هو الوجود بكل متناقضاته هو جدلية السبق بين الوجود والموجود هو الذكريات بمختلف أفراحها وخيباتها وهذا ما نلحظه في الصفحة الأخيرة من الرواية على سلم الشقة التي يقطنها (نبيل) حينما وجد (انسجام) جالسة قرب باب الشقة حينما تقول له “ما جدوى الحلم بعيدا عن أصل وجودك. فقط أنظر حولك جيدا وسترى كمية الزيف الذي يسعى لتجريدك من انتمائك” فالانتماء للمكان لا يتحدد بالأمان فقط بل بالشحنات الانسانية والذكريات والتخلص من الانتماءات وهذا ما تحقق في (الكسرة) المدينة الفاضلة التي نسجها الروائي.

ماهر مجيد سارد عارف بالصناعة السردية مبنى ومعنى فعلى الرغم من جماليات المكان في الرواية إلا أن التداخل الجمالي ما بين الفلسفي- الروائي خلق معمارية تشي بالكثير من الجماليات التي تحتاج إلى دراسات موسعة لا يسعها هذا المقال.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة