“قصائد مؤقتة” لعادل المعيزي

هيام الفرشيشي

حين يمسك الشعر بوجود الشاعر من خلال قصة تسرد رجع الصدى لصور طفولية فهو يوقظ في  أعماقه حياة جديدة حسب باشلار، كمن عثر على الرابط السري الذي ينفذ إلى ماهية الذات. وقد حملتنا نصوص عادل معيزي في ديوانه “قصائد مؤقتة” إلى عالم من الصور أيقظتها روح طفل هائم، عثر على كينونته في اللغة الجموح في قرية متخيلة “بيني باندو”، في بيئة شعرية متوهجة بالحركة والإيقاع والأصوات: “بيني باندو ليست إلا شهبا ويسيل النور على خد الصحراء، تسيل الموسيقى وحبال الشمس تسيل على حمحمة الخيل وفرو الحرية”. حيث رنين الشعر على إيقاع الخيل المتواتر تتجسد بيئة شعرية فيها الحياة ممكنة.
“بيني باندو نعناع ونساء بيض يغسلن حبال الصوف بماء البحر، وبرق الرعد، نساء تجري من تحت جدائلهن الأنهار ووديان النعناع”.
المكان المتخيل مائي: البحر والأنهار والوديان والأمطار. تنبعث منه روائح النعناع، خضرة الماء وانسيابه في فضاء التخيل والحلم، بشرة النساء في ألوان الصوف.  جمال البياض الناصع والماء عنصر مطهر للمادة يصقل الروح، يحمل بين أجنحته “حميمية الغابة”، وفي الأثناء يسرد لنا الشعر قصة الرنين والأصوات والصور المتنوعة الملونة، الروائح، شاعرية السماء والماء والمطر، عنف الريح. إنه يستعيد الماضي كرجع الصدى ليروي سيرة طفل يكتشف العالم بعين الدهشة والتأمل الهش، تغبطه الطبيعة من حوله وعفوية الناس ويرعبه مصير الفراخ والأطفال وغضب الطبيعة وخاصة عند العاصفة.. ويصور صورة مقابل صورة…”ما يستحيل بشفافية النبع في بيني باندو يشرق عصفور أزرق وتغيم سماء بورود، وإذا هطلت أمطار عطرت القرية تلو القرية”..
العصفور يوجه بصر الأطفال للأعلى، وهو يتابع تحليقه تحت سماء زرقاء ومغيمة، وهو يشرق مع بزوغ الشمس وكأنه شمس تبشر بالصباح، وهو يعيش في الحقول المعطرة بروائح الثمار والنبات، ولكنه في الأثناء يعاني من غضب الريح الغاضبة المؤذية تصفق/ تصطك/ تصفع، في تلك الأثناء انشغل الشاعر الطفل بوضع الفراخ بالعش..
الريح تصفق في أعشاش الفجر تصطك
لماذا تصفع حقل الزيتون بلا ذنب؟
الأعشاش دائما تقترن بالبدايات، الفراخ قبل أن تتعلم التحليق، وهي تمد مناقيرها للأم، والشجرة غالبا ما تمثل مأوى العش،  وفي الحقول أشجار تأوي إليها العصافير وتفرخ. وخاصة الطيور المهاجرة الباحثة عن الدفء والأمن،  والريح وهي تصفق کأجنحة الطير  وتضربها بحركة ارتجاف واضطراب، تكون قد سلبت أمنه دفئه، والشاعر هنا يرى المشهد بعين طفل:”أشجار البلوط أشجار الفرنان وأشجار الفلين وأشجار الزان واشجار ونوار الدفلى في بيني باندو، والعرعار والاف الأعشاب الملقاة، شفاه تلثم أثداء الغابة”.

فالمشهد الطبيعي متنوع تنوع أشجار الغابة ونباتها وروائحها وجمال نوارها والوانها.. بل وصفها بالأثداء العابقة بالرحيق الذي تمتصه الروح لتشبع وتنتشي،  ولكن تلك الأشجار والأعشاب لم تسلم من عنف العاصفة، منها تبدأ الفلسفة حسب هيدجر وتبذل الكلمات مجهودا شبيهة بأشجار التنوب التي تصمد أمام العاصفة، نحن هنا في غابة أخرى تصفعها الريح وتحمل أيضا قسوتها على الإنسان تجتث حلم الشاعر وتقتلع كائنات من أعماقه:
“فأس تقطع جذع القوس القزحي، ومن فوق يتزحلق مارون، ببدلات زرقاء على ألسنة الريح يطيرون إلى عرق يتصبب من شرق نزق”.


الريح تقلع الأشجار، تعبث بالعمال، تجرف الطرق، تجهد بل تضاعف الجهد..  تبدو معادية لفضاء طبيعي أليف، تهدد الجمال، تقطع الفؤوس وتسقط الأعشاش، تعبث بالتأملات، تقتلع العواطف الإيجابية.

حين نوجد في الغابة فنحن في عالم باشلاري مفتوح على الأذى، ماذا لو كانت الطيور تسكن أسقف البيوت والشرفات، ماذا لو بقي الكادحون في بيوتهم؟ ماذا لو كانت الحياة أكثر أمنا، نحن في عمق المعاناة، في أمة لا تصنع حضارة ولا تسهل العيش، ولا تحمي البشر والشجر من الكوارث، الوجود المادي لا يقل قيمة عن الوجود المعنوي، نحن في العراء والصقيع بدون ملاذ آمن. العش كما البيت ملاذ الشاعرية والاسترخاء والطمأنينة بدءا ببيوت الأشياء الصغيرة الأعشاش وأسقف الأشجار.

يحملنا عنوان الديوان “قصائد مؤقتة” إلى عوالم الأحلام المستمرة باستمرار الواقع وبكل تلويناته،  وهي ترنو لتصوير حلم الشاعر في خلق عوالم جديدة ترتفع عن الواقع بسواده وضجيجه السياسي ومناهضته للحرية، و تخيل واقع آخر  يثير الدهشة، يستغرق في رؤيا الجمال وإن كانت أدوات تشكيله بسيطة تحاكي حلم الأطفال، تغريهم الزوارق الورقية بالإبحار في محيط عميق وتفتح نافورة الماء كوة الينابيع المتدفقة..
حلمت أننا قصائد/ وأن الجنة نافورة ماء/ وأنك على كل شيء قدير، كل شيء/ كأن تبلل القصائد بالماء وكأن تفرغ النافورة بالسطل / وكأن تجري سفينة ورقية وترسيها/ ولم تكن لي احتمالات أخرى/ خارج قدرتك تلك / أنت على كل شيء قدير، كل شيء. . ٖ
والشعر هنا يجرد الكائن الانساني من وضعه الجسدي فهو أرقى تجليات التجريد والأفكار الهائمة على صفحات موج تشكل بقعة ماء، نواته طفولية فكم تحولت بقع المياه التي خلفها المطر  إلى بحار وأنهار في أحلام الأطفال وكم سبحوا فيها واستكانوا غرابتها. فالماء لا ينشف في المخيلة ولا تمتصه التربة ولا يركن في أعماق الأرض بل يصبح صورة مجسدة لحلم مجرد. ماذا لو ارتوت منه روحه العطشى، ماذا لو لم تفتك منه الأرض جنته الجارية؟!

لم يهرب الأطفال تحت مطر خائف/على ضفاف الأعوام المتضاحكة/عندما فاضت كل الأودية/ إلا نهر بيني باندو /قد يكون سعيدا وقد لا يكون/ ليس لأن نهر بيني باندو لم يفض/ وإنما لأنه لا يوجد /نهر في قرية بيني باندو..

يتحرر من صورة النهر الغامض الساحر العظيم المقدس المتبرك به المطهر للنفوس الذي تهدى له أجمل الصبايا وتقام له الطقوس النهر الغاوي، المعربد المزبد وهو يفيض على الأرض ويأخذ الأرواح كالجرح المخيف أو الهوة التي تستمر في ابتلاع البشر كقاطع طريق، يجرد الناس من الاحتفال بالمطر كحدث مدهش إنه كنهر النسيان في الميثولوجيا اليونانية والرومانية القديمة يمسح الذاكرة البشرية ويقنع الروح الهائمة بقناع جسدي ..فموسيقى الشعر غير هدير النهر، إنها زقزقات موسيقى متجردة من البعد المكاني تلامس الروح وتطربها هي صوت الحرية في وجه العسس، هي إيقاع للثورة على السائد بمعارفه وايديولوجياته المميتة…والشعر صور ترسم بالنور والأضواء والظلال كائنات غير مرئية تبث سعادة وغبطة، تلبس صورا حسية مرئية هي نتيجة إبداعية للخلق الروحي، يقول كاندنسكي: ” الفن لغة تخاطب الروح بالصورة”، وكل فنان “يرسم ذاته” على رأي ليون باتيستا البارتي ولا يكتفي الشاعر بالضوء والموسيقى بل يبث الحركة في الأشياء.

“الضوء العاري والأحلام إذا رقصت والأوتار إذا انكشفت”..


قصة الحلم تصور السعادة الكامنة حين يرصد الفكر صورة تحولها الذات الى حقيقة، تحمل اللغة إلى زمن آخر، وهو غير معني بتصاميم العمارة وتفاصيل الصور المرئية الواقعية فهي تحجب عنه رؤية النور وهي وسائط مادية متكلسة، ولكن تلك الأبعاد المكانية قد تتداخل مع الشعر إذا أصبحت فنا وقد تتحول إلى نقاط افتراضية يحط عليها المعنى، تحضن اللحظات الهاربة من الواقع، لحظات الحرية والانعتاق ..
“راشيل كوري شاعرة لم تسمح أن يبقى العالم مهزوما اختارت في المسرح أجمل ركح واختارت في الركح البارد أجمل مشهد”..
البعد المسرحي هو فضاء للصراع وتعدد الأصوات والنقد والتصدي للواقع حتى وإن تحول الجسد إلى أداة رفض للواقع في صورة تصدم كل المشاهدين في العالم، فالحرية بحث عن عالم آخر يغمر الروح وأن أزيل الجسد، وقوف ضد الآلة العمياء والغطرسة. والجسد لا يعني أي شيء بالنسبة للمدافعين عن الحلم لأنه يستمر في عالم آخر، عالم مقدس جمالي والمسرح الإنساني الحقيقي يجسد حقيقة الروح المجردة، ليصور  الشاعر عالما بديلا ولكنه غير أرضي ولا يشبه تصاميم الأرض لأنه لا يهدد الحرية بقوانينه الطبيعية والبشرية، ولا يجهض الحل… يحرر الإنسان من الطين المتكلس، ينتشله من الوحل العالق بقدميه، من قانون الأرض المناهض لقانون الروح..

“قصائد مؤقتة” لعادل المعيزي تنهل من فنون المرئيات والحركة، وهي تتجرد من الواقع وأبعاده حين تختار فضاءات مضيئة أو صورا نورانية أو موسيقى تحاور الروح وتنأى عن الأمكنة والأزمنة.. تحملنا  إلى عالم آخر  يأخذ بعدا جماليا ثملا ..

“مثل الخرافة نطلع من صرخة في الرياح”..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة