تأويلية السرد والانتهازية الدينية في “ما بعد جلجامش” لـ علي لفته سعيد

إبراهيم رسول

اتخذ البناء الفني في المجموعة القصصية أنماطاً وأنساقا عدة في البناء السردي, فالكاتب ينزع نزعة تمردية على التقليد السردي ويتحرر من قيود البناء الكلاسيكي, لذا تجد أن لكل قصة بناء يختلف عن الأخرى بل تجد بعض الأحيان أن في داخل القصة الواحدة تنوع في الأساليب السردية, هذا بالوقت الذي نجد الواقعية  تفرض نفسها كثيمة بارزة في مخيلة صاحب النص, إذ الواقع بمرارته وانعكاساته التي نزع القاص بها نزعةً إنسانية همها الإنسان بكل ما يعنيه, فالواقعيةُ السردية كانت تعبر عن المكنون الذاتي في نفسية القاص لحظة خلق النص القصصي, إذ نلمح أنه ينتقي عبارات تعبر عن حرقة منشغلة بالأخر ومهمومةٌ به, هذا الانشغال جعل القاص يلجأ إلى التأويل تارة وإلى الصراحة المؤلمة تارةً أخرى. ان البارز في المجموعة أنها تشتغل على الواقع الاجتماعي وتحاول أن تجعل المتلقي يتساءل عن المغزى أو المرمى الذي نحاه القاص بسردياته.. والمنحى الأبرز هو التلاعب بأبنية القص باسلوب حداثوي الذي أعطى انطباعاً في مخيلة المتلقي أن يمضي متسائلاً مع صاحب النص, إذ كان معنى الانتهازية هي السياسة والممارسة الواعية للاستفادة الأنانية من الظروف مع الاهتمام الضئيل بالمبادئ أو العواقب التي ستعود على الآخرين, وأفعال الشخص الانتهازي هي أفعال نفعية تحركها بشكل أساسي دوافع المصلحة الشخصية, فالنص يكون ناقداً لهذه الانتهازية الفجة التي مارستها الشخصية الدينية على البسطاء والفقراء من الناس.. نلحظ أن القاص وظّف السرد لغة صريحة تارة وبالأخص عندما تبوح الشخصية بما تضمره من حنق تجاه العبث الكبير الذي تمارسه  شريحة كبيرة من رجال المؤسسة الدينية, كثيرة هي المواضيع التي عالجتها المجوعة القصصية( ما بعد جلجامش) لكن الأكثر بروزاً وهيمنةً كان التحذير من هيمنة  هذه السلطة على حياة وعقول الناس البسطاء, إذ حوت المجموعة الكثير من النقد القوي واللاذع ضد استغلال الفقراء أبشع استغلال, بل إن النقد كان ساخراً ويضمر الكثير من الحنق على الجريمة التي تُقترف بحق أولئك الناس. إن الهيمنةُ التي يقصدها الكاتب هي الهيمنة البشعة, والتلاعب اللامشروع والضحك غير المبرر, كما حوى النص على نقد أقوى إلى أولئك الذين يسلمون مقاليد عقولهم إلى أشخاص يفكرون ويخططون نيابةً عنهم.. إن النقدُ كان منصباً على طرفين, إذ البناء الفني للقصة يشي بحقيقة يمقتها الكاتب, وهي التي اشتغلت عليها في القصص كلها تقريباً. واستعانة الكاتب بإرث حضاري ومعرفي ويصوغ على غراره رؤاه وما يتصوره خياله الواسع من اطروحات خيالية لكنها تحكي واقعاً يعيشه الكاتب ويتفاعل معه, إذ يقول في قصة ( بعد أن رأى كلّ شيء): (… ورحتُ أخاطب الناس: ألا وأنك كنت تستغل السماء, وتتكلم باسمها فإنك أول من سنَّ سنةً سيئةً في التأريخ… أول من جعل من جاءوا بعدك يتحكمون بعقول الناس ويقولون لهم نحن الأقرب إلى الله منكم…) هذه السنة السيئة التي يطلقها النص هي بسبب ( التلاعب بالعقول), يسهل كثيراً خداع الناس بطريقة مغلفة بثوب ديني نتيجة لتأثيره في قلوب ومشاعر الناس فإنهم يركضون وراء تلك الدعاوى دون تدبر أو معرفة.

إن الكاتب هنا يسخر ويلوم ويوظف الخزين المعرفي والتجارب الكثيرة التي اختمرت في مخيلته ليقدم النقد اللاذع ضد تلك الهيمنة, ويقول في القصة تواصل (قال الرجل: أنا قرأت التأريخ فوجدت أن في كل عصرٍ مثل هؤلاء الذين يستغلون الدين لصالحهم وهم ينتصرون.. ولكن خسارتهم  مؤلمة) فهؤلاء الذين يتاجرون بالدين ويعبثون به فإن نهايتهم ستكون خاسرة, وهذه الخسارة ستكون وبالاً عليهم إذ إن استخدام لفظة ( مؤلمة) يدل على أن النهاية لهم ستكون وخيمة مخيبة لآمالهم, الكاتبُ يريد للفكر أن يأخذَ مساحةً واسعة وأن يحكم الناس عقولهم وألا يقعوا فريسة سهلة بين المتاجرين بهم, المقدماتُ الاستهلالية اشتغلت على أكثر من نسق, إذ اجتمع النسق اللغوي والثقافي وكان القاص يستجمع أدواته السردية ويكتب بأنساق متناوبة, كأنه ينزع نزعة التلاعب في السرد, إنه سرد تشويقي وجديد, إنه يكسر البرود الذي يعتري القارئ, النسقُ الثقافي كان يأخذ منحىً كبيراً من بين الأنساق الثلاثة الأخرى, إذ نجده يستحضر الكثير من القيم الاجتماعية ويعالجها معالجة اجتماعية مسلطاً الضوء على السبب عبر حوارات الشخصيات التي ترد في كل قصة, إن بثَّ الحياة والخصوبة في الشخصية وجعلها متحركة مؤثرة, متفاعلة منتجة, الثيمة الأبرز لكل القصص هي العقل الذي أخذ مساحة كبيرة من خيال القاص وكأنه يدعوا إلى الرجوع إلى العقل في كل الحياة, وألا يقع في مزالقٍ تحرفه عن مساره, الكاتب مشغول بالناس, وبهمومهم، ويمقت أن يُستغلوا بأيِّ نوعٍ من أنواع الاستغلال, كثيرون من يتحدثوا بلسان السماء وينصبون أنفسهم أرباباً على البشر لغاياتٍ في أنفسهم ! لعل النص الذي ختم به قصة ( نادلة سيدوري) : (أعلم أنك لن تصدق, ولكن صدق, أن الجميع يستغلّ السماء). هذا النص يضمر أن الاشتغال السردي على قضيةٍ مميزةٍ وثيمةٍ بارزةٍ لهوَ اشتغال مبدع وفنان ماهر متمكن من حذق اللعبة السردية, إنه مصرٌ على أن التزييف  قائماً, هو ناقد لهذه الحالة التي وصفها بأبشع الصفات.

إن الغورُ في المجموعة والحفر في مدلولها يحتاج أن يُسفر المقال عن دراسة موسعة وكبيرة, وسنذكر نصا واحدا كمثالٍ على ما نود أن نتتبعه وهي قصة ( أنا وأنت المدينة), هذه القصة حِيكت حياكة فنية بامتياز وانصب الجهد الابداعي عليها وتعد أنموذجاً للمخيلة الخصبة, كانت هذه عصارة لتفاعل الذات مع نفسها ومحيطها, إذ المحيط كان يموج بتياراتٍ متنوعةٍ تتصارع أمام مرأى ومسمع الشخصية, إذ نرى البناء هنا يعتمد المنولوج أكثر من باقي القصص, حيث وجد القاص بشخصية ( آدم) الخليل الذي يفضفض له ما يعتلج في نفسه من تشابكات معقدة ومنصهرة حتى الغليان, واشتغلت أيضاً على الفولكلور, عن طريق استعمال الكلمات ذات الدلالة المحلية ( الجمبر/ سنسفيل) يقول النص: ( متى تفتح ذراعيك أيها المدى البعيد لأرى الشمس بوضوحٍ وليس من خلال ثقوبٍ أصابها المطر بالزكام المستديم) لهذا النص إشارة ودلالة, يا ترى كيف يكون المطر حائلاً بين شيئين وهو الذي يدل على النماء والحياة؟ إن المطر هنا قد اتخذ السوداوية في النص, بدلالة كلمتي ( أصابها, الزكام, المستديم) هذه الكلمات قد أعطت معنىً آخر أفضى لأن يكون النص مفتوحاً على تأويلاتٍ متعددة, تصل الحالة بالنص أن يأتي بالمعنى الصريح ليقصد البعيد كما يقول في ذات القصة( أطلق حسراتك أيها المنسي في مدنٍ بعيدة) هنا كيف اجتمعت هذه الثنائية( المنسي/ البعيد) إذ كما هو معروف بأن البعيد بعيد لأنه منسيٌ, ولكن القاص متمردٌ على الدلالات حتى, فهو يتلاعب كما يشاء وقتما يشاء, مستعيناً باللغة الرصينة التي يمتلكها, ومستعيناً بالدلالات التي يوظفها توظيفا ًصحيحاً وتحمل الدلالة وجهاً مبدعاً, الفكرة مضمرة على المتلقي حتى يتأمل في هذا التلاعب المبرر له. إنها لعبة فنية يمارسها القاص مع المتلقي, كسراً لحالة الجمود والملل التي تعتري القارئ, جعل القاص القصص متناوبة, متمردة, غير نمطية.

إن الاختلافُ يعود إلى نزعة فنية/ لضرورة سردية, هذه ميزة جمالية تضاف إلى المجموعة إذ أنها مواكبة لعصر السرد الذي صار يتطور لحظةً بلحظة, هذا التطور اعتمد على تقنيات حديثة تعطي النص الصفة أو الثوب الجديد المبدع( المبتكر), المجموعةُ كانت تهتم بفلسفة إنسانية بحتة, وتنزع نزعة نافرة متمردة على الواقع المتأسلب, الاستفهام  ألـ ( لماذا) كان يكاد يكون في كل قصة, إذ النقد للواقع التعيس يحتاج أن يسأل صاحب النص نفسه عن السبب الذي جعل واقعهم أو واقع المجتمع والشخصيات التي يكتب عنها بهذه الصورة التي لم ينفر منها القاص, ويكاد تضيق نفسه من العيش برحابها, لكنه مجبولٌ على العيش فيها والانتماء الحقيقي لها هو الذي كان يلح عليه, الشخصيات التي اختارها تحتاج لوحدها موضوعاً إذ أنها كانت ترمز إلى أشياءٍ عدة, وهذا التوظيف ( الفولكلوري) كان مبتكراً بأحدث تقنيات السرد التي وصل إليها, التأويلية التي اشتغل القاص عليها في سرده هي نقد الواقع الموحش والموغل في التيه والتشظي, يريد النص أن يفتح نفسه على آفاقٍ جديدة تنشغل بالفرد كإنسان, الإنسان الذي ينبغي ألا يُستغل بدناءة لتسخيره كالحيوان, هذه النصوص كانت تشتغل على دعامتين ( علم النفس/ علم الاجتماع) الإنسان وتفاعله مع ذاته, وتفاعل الذات مع المحيط العام وما ينتج عن هذا التفاعل من مشاكلٍ كبيرة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة