عمار حميد
كان منزلا قديما جدا ذلك الذي يقع في شارعنا ، فقد أكل عليه الدهر وشرب ولم يكن واضحا من كان يسكن فيه او لمن يعود. تبدلت المنطقة كثيرا وحلّت فيها منازل حديثة ولم يبق الا هذا المنزل العتيق الذي ربما كان يعود الى حقبة مبكرة من عشرينيات القرن الماضي.
في أحد الايام شاهدت رجلا يقوم بوضع لافتة على الباب الخارجي لذلك المنزل تعود لإحدى الشركات المختصة بهدم الدور السكنية ففهمت من الرجل ان المنزل ستتم ازالته بعد غد، حيث اشتراه احد المتنفذين في مجال العقارات وهو مستعجل جدا لبناء منزل جديد مكانه. فحزنت لأجل ذلك المنزل المتهالك الذي شكل جزءا مميزا من حيّنا ، لكنني لاحظت بشكل عابر بعد مغادرة الرجل أن باب المنزل المؤدي الى داخله كان مواربا وأن خيطا رفيعا من الظلام يفصله عن الحائط القديم فلازمتني الرغبة في دخوله، حتى كان صباح اليوم التالي وجدتني أقف وسط القاعة الرئيسة للمنزل بعد ان اجتزت عدّة عتباتٍ تقود نحو الباب سبقتها طريق مرصوفةٌ بالـ(فرشي) المكسّر الذي يخترق حديقة جدباء لم تنم فيها سوى بعض الادغال والحشائش واشجار يابسة تحمل على اغصانها بقايا اعشاش الطيور.
كانت فكرتي دوما عن ما تحويه المنازل القديمة من الداخل مستوحاة من خلال مشاهدة افلام الأسود والابيض، ولكن كانت اول مرة اشاهدها في الحقيقة ، فالقاعة الفسيحة تحوي غرفاً وأروقةً مزخرفة بالنقوش واشكال الزهور وفي وسط هذه القاعة يمتد سلّمان عريضانِ بأعمدة ملتويّة مزخرفان ايضا، يمتدان من اليمين واليسار الى الاعلى ويتصلانِ بشرفة عريضة واسعة تتصل هي الاخرى بمنصة الطابق العلوي الذي تؤدي ممراته الى غرف وأروقة هي الاخرى. لكن المكان كله يعاني من الرطوبة والتشققات بالإضافة الى خيوط العناكب اللزجة فيما بعض النوافذ لازالت بعض الستائر الممزقة والمهترئة تغطي تلك النوافذ وهناك بعض المقاعد الخشبية المحطمة تجمعت خلف السُلّم.
كدت ان أهم بمغادرة المنزل بعد ان اشبعت فضولي بالتجوال لبعض الوقت في غرفه الخالية الا من الأتربة وركام اعشاش الطيور واكياسا وبقايا اوراق صحف قديمة عبثت بها الرياح في الماضي لكن انعكاسا لشعاع الشمس جذب انتباهي كان ينبعث من خلال كوّة في الجدار المقابل للنافذة التي كان ضوء الشمس يدخل منها وقد وضعت بعض قطع الطابوق القديم بداخلها للتغطية، اقتربت اكثر فرأيت من خلال الطابوق ان مرآةً قد وضعت هناك وكانت تعكس شعاع الشمس المقابل للنافذة ، قمت بإخراجها متأملا شكلها ويبدو انها مرآةً يدوية من تلك التي كانت تستخدمها النساء، فقد كانت مزودةً بمقبض خشبي وقد زُيّنت بنقوش جميلة ودقيقة. وما ان رفعتها كي انظر الى نفسي حتى صعقتني المفاجأة والذهول عندما رأيت فيها ان المكان من حولي تعكسه المرآة وقد عاد الى عهده القديم كأنني في منزل يعج بالحياة، وقد ظهرت في المرآة الاثاث والستائر الجميلة والمقاعد الوثيرة ولكن دهشتي تفاقمت بسبب تحسس اصابعي لما يبدو انه كتابة منقوشة خلف المرآة فقرأتُ عبارة قد حٌفرت في ظهرها تقول : إليك يامن تمسك مرآة الماضي فإنك لن ترى فيها سوى الهواجس والأحزان.
ساورني القلق والخوف من هذه المرآة التي وقعت بين يدي وفكرت في ان ارميها او اتركها حيث وجدتها والخروج من هذا المكان الغريب لاعنا اللحظة التي دفعتني للوقوع في هذا الموقف المرعب ، لكن الفضول بدا اكبر من مخاوفي التي تراجعت وانا أتمعن في المرآة زوايا المنزل مرة أخرى من جديد وهي تكشف لي ماضيه حسب ما تقوله العبارة المنقوشة بالإضافة الى انني كنت ارى انعكاس وجهي بشكل طبيعي ، المنزل يبدو خاليا من سكانه الا انه بدا مرتبا نظيفا مع ضوء قليل يخترق حجب الستائر مبعدا بعضا من عتمة المكان وفي وسط القاعة الرئيسة التي كنت اقف فيها، شاهدت قفصا ذهبيا جميلا يترنح بهدوء وفي داخله عندليب، الا انه كان صامتا لم يغرد وكان منكفئا على نفسه ، نظرت الى المكان الحقيقي الذي كان قد عُلِّق فيه قفص العندليب والذي كان خاليا مهجورا فأعود لأنظر في المرآة لأجد القفص معلقا في مكانه والعندليب الصامت في داخله.
دُرتُ حول نفسي ببطء وانا انظر الى ما خلفي في مرآة الغرابة هذه فلمحت في احدى الغرف طرف ثوب لامرأة تحركت قليلا لأراها تجلس على سرير وهي تبكي بصمت وحول عينها اليسرى هالة زرقاء ، شعرت بدوخة بسيطة بسبب محاولاتي استيعاب ما أراه وفكرت ان اتوقف واغادر المكان لكن شبح طفل صغير بملامح جميلة وهادئة بان لي وهو يقف على الدرج الكبير وسط غرفة المعيشة فشعرت ببعض الرعب لأن نظراته كانت موجهة لي من خلال المرآة ، يبدو انه يراني، لكنه واقف لا يتحرك كتمثال. الا انه اشار لي ان اتبعه الى الاعلى واختفى ، بدأت بالصعود ولكن بحذر ونظري لا يفارق ما تعكسه لي المرآة ووصلت الى الطابق العلوي ولاح لي رأس الصبي من خلال احدى الغرف واختفى فيها مرة اخرى، فتبعته الى هناك لأرى رجلا يبدو انه كان والد الطفل وهو يلاطفه ثم يعامله بحزم وعصبية لأرى الحزن والدموع في عيني ذلك الطفل.
تتابعت عندي المشاهد في المرآة وانا أجول في زوايا المنزل المهجور واحداثه الغريبة انظر اليها بين يدي ، شاهدت خيانة رجل المنزل مع امرأة اخرى اكتشفت انها الخادمة وشاهدت زوجته وهي تتألم من الحزن ، تعابير غضب وحنق تعبر عن صياح وشجار متواصل من قبل الرجل على زوجته السيئة الحظ ، حزن وانكسارات هذه الزوجة التي تعاني من ظلم زوجها وطفل يراقب من بعيد، بنظرات يملؤها الرعب والحزن.
بدأت اشباح من كان يسكن هذا المنزل الحزين بالتلاشي كأنهم غادروه الى غير رجعة بعد ان تشتت شملهم بسبب ذلك الأب المتعجرف وتصرفاته اللامسؤولة ، انطفأت الاضواء في المنزل وعم الظلام فلم أعد ارى شيئا في هذه المرآة فكرت انني لم اشاهد لحظة سعيدة في المكان وان قطعة الزجاج هذه لم تكن لتعكس سوى التعاسة والحزن ولاشيء اخر غير ذلك ثم بدأ الحزن يأخذ قلبي والافكار تتوالى ، ماذا لو خرجت ونظرت الى العالم كله , هل اريد ان اشاهد ما عاشه الناس من حروب ودماء وجرائم لأدقق في تفاصيلها ، بالتأكيد انني سأكون شخصا تعيسا وسأنسى معنى الفرح والسعادة بل ربما سأحمل الشؤم والقلق والخذلان لعائلتي وربما ان صاحب هذا المنزل لم يتصرف مع عائلته بهذا الشكل الا لأنه قد أدمن النظر في هذه المرآة اللعينة.
مع اقتراب موعد مغيب الشمس كنت اخطو خارجا من ذلك المنزل الحزين تاركا تلك المرآة في مكانها حيث وجدتها وقد اخفيتها بحرص حتى لا يعثر عليها احد من عمال شركة هدم المنازل التي ستحيل المكان والمرآة الى حطام.