طالب عبد العزيز يستعيد تاريخ الأسى شعرا

سلام مكي

هل ثمة حاجة لاستعادة التاريخ؟ ذلك التاريخ الذي هو سجل مفتوح، لا نهاية له، ولا بداية لتاريخ جديد. ربما تتبدل الأقلام، ويتغير الكتبة، لكن الصحيفة نفسها، وحتى الغلاف نفسه. ذلك التاريخ الذي يستعيد نفسه، ويسترجع أحداثه نفسها، لكن الصورة مختلفة وبحدث أكثر تناغما مع الحياة الجديدة. وهل أصدق من الشعر حتى ينقل التاريخ؟ هل أصدق من شاعر، انزوى بعيدا عن ضجيج الآخرين، وعن الحياة نفسها، واختار لنفسه مكانا قصيّا، ليدون تاريخ أساه؟ وهل أصدق من الأرض لتحافظ على تاريخ شاعر، ضاقت به السبل، ليلجأ إلى الأصل الذي جئنا منه، فيزرع قصاصاته وأقلامه وأحلامه وآلامه بل وحياته كلها في باطن الأرض وبين أوراق الشجر وسعف النخيل، غير عابئ بأنياب الطبيعة التي قد تفتك بتاريخه، وتحيله إلى رماد رطب. طالب عبد العزيز، عاد إلى المكان الذي جاء منه أول مرة: الطبيعة/ الأرض. لعلمه أنها الأم التي لن تفشي سرّه أبدا. ولن تسمح لقوارض الزمن أن تقضم وريقاته وأحلامه مهما طال الزمن.

ديوان ” تاريخ الأسى” هو التاريخ الحقيقي لزمن، كان الشعر فيه ينفخ في العتمة ألوانا خادعة، ويزوّق الأشكال العبثية ليحيلها إلى أشكال جميلة في أعين الناظرين. صدر في زمن، كانت الكلمة مفتاحا للموت أو الحياة! الحياة التي يعيشها الشاعر أو الكاتب، على الطريقة التي تريدها السلطة. كما هي طريقة الموت التي لابد للخائن أن يموت وفقا لما يريده النظام لا أن يموت وفقا لما يريده هو. واستعادة ” تاريخ الأسى” تشير إلى أن طالب عبد العزيز، قد أدرك أنه لا فرق بين عام 1994 والأحداث التي سبقته وحملته على أن يدونها شعرا، وبين الأحداث التي نعيشها اليوم. وما بين 2020 و 1994 هي الريشة التي تلون الحياة فقط، أو القلم الذي يملئ صفحتنا بالسواد. اختلف الكاتب، لكن الكتابة هي نفسها.

البحر الشاسع، والقارب المسن، والحبال الممدودة، تشي بعودة من بطن لا ترد أحدا.. هي لوحة الغلاف التي تواجه قارئ تاريخ الأسى. لكن: أي عودة تلك؟ إنها عودة لا قيمة لها، ولا معنى، سوى أنها تطرق أبواب جروح أوشكت على الاندمال. فما الحاجة إلى قارب بلا صاحبه؟ فالأرض التي زرع فيها طالب عبد العزيز أشعاره وأقلامه وأوراقه، بيعت، وتحول مدفن الكتب إلى شارع أو بيت. والنهر الذي كان يحدق فيه طويلا، ردم. فكان على الشاعر هنا، أن يعيد من البحر صاحب القارب، مثلما أعاد من الأرض قصائده، وأطلقها إلى الحياة وها هو يستعيدها اليوم، ليروي للأجيال الجديدة تاريخا يعيشونه اليوم بكل تجلياته. ومثلما عادت قصائده إلى الحياة، سيعود القارب يوما، بصاحبه..

استعادة ” تاريخ الأسى” في هذا الوقت، قد يمثل إحراجا للكل، أو إدانة للواقع والحياة.. فما كان قبلا هو اليوم ذاته، بل أشد وقعا في النفوس. إنه تاريخ لإدانة السلطة التي كان طالب يدس قصائده في باطن الأرض وبين سعف النخيل المقطوع هربا من بطشها وجبروتها. إنه يستعيد اللحظة التي قرر أن تتنفس قصائده في جو لا مجال فيه للنفس بحرية.

كان ” تاريخ الأسى” شاهدا على سعي السلطة آنذاك لكتابة تاريخ آخر ومختلف، يدين الحياة كلها ولا يدينها. وللأسف، كتب ذلك التاريخ بالشعر أيضا، والكتبة لازالوا اليوم يخدعون الآخر بكتاباتهم التي زوّرت التاريخ بالأمس واليوم تمارس نفس الدور.

يا شيخنا.. يا أبا عثمان

أيها البحر الجاحظ:

هل يقوى البيان

على صرف ما لا ينصرف

من الزمان؟

يستثمر الشاعر التاريخ هنا، ليعينه على فضح الحاضر وتعريته من ثيابه البالية أصلا. فالشاعر لا يملك أمام سطوة الحاضر، سوى تاريخه وقلمه وذاكرته التي تنزف شعرا أحمر. وهو إنما يدين هذا الحاضر. وتلك الإدانة تتمثل بعدم كفاية التاريخ ولا الأمجاد الغابرة بمحو الشوائب عن الحاضر، أو انتظار التاريخ كي يصحح الأخطاء ويعيد الحياة إلى طبيعتها. والشاعر إنما يطلب من الآخرين مواجهة العدو بشكل مباشر وعدم الاكتفاء بانتظار النهاية المحتومة. وكأن طالب عبد العزيز هنا، يقول: ألم أطلب منكم المواجهة؟ لم ينصرف الزمان فحسب، بل سحق، وتلاشى.. وليته كان بيد البيان؟

أخوه الذي حرث الفسحة التي كانت يراها مدفنا ومكانا خصبا لزراعة قصائده وشعره، كان بمواجهة الواقع كله. أخوه الذي غيّبته الحرب، كان هو طرفا أصيلا فيها. يقول في نص حرب أخي:

قم أخي، لقد انتهت الحرب

وأخذوا دبابتك إلى مصهر الحديد

ولكن بندقيتك، مازالت على الجبل

وها قد أتت الرمال على بسالتك أخيرا

أخوه، الذي يمثل الانسان العراقي المغيّب قسرا، في غياهب الحرب، والذي ترك جرحا عميقا في نفسه، بعد موته، ونهاية الحرب التي تبين لاحقا بأنها ما كانت لتكن أصلا، لم يكتفوا بتغييبه، بل غيّبوا دبابته وصهروا حديها ليتحول إلى آلة جديدة. فبعد أن كانت التعبئة للحرب واستنهاض الهمم والتشجيع على الموت، تبين أن كل ذلك كان عبثا. لم يبق سوى بندقيته التي لم يتركها إلا بعد موته، كانت أفضل من الجميع، فلم تبرح مكانها. والبسالة التي كانت دافعا ومحركا لأخيه، دفنتها الرمال.. لكن الرمال لن تبقى في مكانها، ستهب عليها ريح الشعر والحياة لتكشف عنها من جديد. وطالب نفخ فيها من ورحه، فكشف عن تلك البسالة إلى الأبد.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة