تدوين السرد من الفضائين في “رماد المرايا”

يوسف عبود جويعد           

تُعد رواية (رماد المرايا) للروائي هيثم الشويلي، التي رشحت للقائمة الطويلة 2019 لجائزة راشد بن حمد الشرقي للإبداع. واحدة من النصوص السردية التي تناولت زاوية نظر مختلفة في تناول الاحداث وتحريك أدوات وعناصر السرد التي تدخل ضمن البناء الفني لصناعة الرواية، حيث نلاحظ أن هناك زمانين ومكانين يكوّنان ويشكلان المبنى السردي لهذا النص، وكذلك نجد فضاءين يغلفان العملية السردية، الاول يتعلق بحركة الحياة والاحداث التي دارت داخل البلد والتقلبات والمتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحروب التي حدثت فيه، أما الفضاء الثاني، هو ما يخص حركة حياة الاسرة التي أختارها الروائي وما حدث لها داخل هذا الفضاء الكبير، وهذا يشمل أيضاً العناصر سالفة الذكر، ومن هنا نشأت عملية سردية بالغة الصعوبة، وهي تحريك الاحداث بزخمها وكبرها وسعتها حيث تتطلب الأمر أن يقود تلك الأحداث ومن خلال تلك المرايا التي ستقودنا لمتابعة حياة البلد ونحن نتابع  حياة الأسرة التي تنضوي تحت خيمته لتكون مهمة السارد العليم الذي اوكلت له مهمة ادارة دفة الاحداث تحريك الاحداث بمساحتها الواسعة وصخبها وهو يقود تلك الادوات السردية الفضاء الكبير والفضاء الصغير والزمان الكبير والزمان الصغير، والمكان الكبير والمكان الصغير، بشكل موحد منسجم متصل يكمل احدهما للآخر، وسنلج الاحداث من خلال منفذ صغير لنتابع حياة نادية والتي ستكون زوجة لجلال وام لأحمد وسعاد وسناء وهناء وبشرى:

( جاءت نادية لهذه الحياة بلا أم تمنحها الحب من صدرها وبلا أي حنان يمنحهُ لها أب أكثر قساوة منها وأشد كرهاً لها، كان يعاملها بقسوة أكبر لأنه أعتبرها أساس النحس الذي يمر به، واستمر معها النحس كظلها طوال حياتها يرافقها أينما حلت)ص8

وهكذا ندخل الى العالم الواسع الكبير، لنتابع ما حل بتلك العائلة وسط صخب حياة البلد ونحن ننتقل من الشاكرية، الى باب الشيخ قرب مرقد الامام الشيخ عبد القادر الكيلاني ، وينقل لنا الروائي الاجواء والطقوس والحياة في  هذه المنطقة البغدادية وكذلك الحياة في الحضرة الكيلانية، وندور مع الاحداث وحكايات عن قصة حب صبحي ونزيهة، ثم قتلها، ثم تسنم حزب البعث السلطة والحكم، واغلاق الحياة في وجه الشعب، وكذلك اندلاع الحرب العراقية الايرانية، ثم تبدأ العملية الكبيرة في اخلاء تلك الازقة من الاكراد الافيل وترحيلهم:

( لم يدرك الجميع أنهم كانوا بداية لمحارق اخرى ستعم العراق كله ، فضلاً عن المعارك على السواتر الأمامية وإزهاق ارواح الجنود السمر في معارك لا طائل منها سوى الخراب وحرق البلاد، تجمعت العوائل على شكل مجاميع في هذه الجملونات التي كانت على شكل أكواخ كبيرة من الحديد، كبيرة جداً تتسع للكثير من الأشخاص.) ص 53

أن عملية عدم الاستقرار ونشوب الحرب والفوضى وفقدان الامان الذي حصل داخل البلد، رافقه بشكل متواز عملية اختلال وعدم توازن في حياة اسرة جلال ،الذي سقط من بناية شاهقة وعوق وعاش على كرسي متحرك، وبسبب الفقر القاسي باع ابنتيه  لشخص من الاكراد، بعدها فارق الحياة ، بينما التحق احمد مع العسكر في اوتون الحرب ونيرانها المشتعلة، وتوفيت الام، ورحلت سعاد وجدتها مع المرحلين الى الحدود العراقية الايرانية لاطلاقهم هناك فوق ارض محفوفة بالمخاطر، مليئة بالألغام.

وسنتابع أحداث ساخنة بهذه الرحلة، حيث تضغط جميلة بقدمها على احد الالغام وهي تحمل طفليها، وتحاول ابعادهم، الا أنهم لا يفهمون شيء، فيلتصقون بها، ثم يعثر طفل من اطفالها بخيط يربط تلك الالغام ببعضها، لتنفجر تلك الالغام، وتتحول جميلة وطفليها الى اشلاء مبعثرة، وتواصل سعاد وجدتها هذه الرحلة التي استمرت لخمسة ايام:

( أرادت سعاد أن توهم جدتها بأنها قوية كي تشعرها بالاطمئنان ، لكنها كانت ترجف من الداخل، ترتجف من شبح الموت المحدق بهما، امتثلت العجوز لها لأول مرة ورمت بعباءتها وعكازها وكانت مطيعة بين يدي حفيدتها ، وسارتا على مهل وسط الحقل، كان الخوف يأكل رأسهما ، وكانت جدتها تلهج بالأدعية والأذكار، وخطوة بخطوة، بعد أن قطعتا شوطاً طويلاً ، لم تكن الجدة تخشى على نفسها من الموت بقدر خوفها على سعاد الشابة الصغيرة التي لم ترى من هذه الدنيا سوى القهر والعوز والحرمان والذل.) ص 100

أن عملية تحريك الاحداث داخل هذا المبنى السردي، يتم عبر انتقالات متناوبة ومتصلة بين مسار كبير، ومسار صغير، بين استعراض كبير لحركة الحياة في البلد وهي تعيش في تقلباتها المستمرة ، وبين حياة الاسرة الفقيرة المعدمة، التي كانت تعتاش على فتات الطعام في الحضرة القادرية والشحاذة للحصول على لقمة العيش. وظل هذا البؤس والفقر والجوع والحرمان يرافقهم طيلة مسيرة حياتهم، حتى وهم في هذه الرحلة المجهولة التي لم يذق فيها احد خلال الخمسة ايام الطعام والشراب، حتى وصولهم داخل الاراضي الايرانية واخذهم الى مخيمات اللاجئين هناك، عندها شربوا ماء عذب واكلوا طعام نظيف ولذيذ.

بعدها تدور الاحداث وهي تصل الى التأزم والاحتدام، فيقع احمد في الاسر ويبقى حتى انتهاء الحرب، ليعود الى الوطن، بينما تعرف هناء حقيقة قصتها وأنها ابنة جلال وتعرف الطريق الى البيت القديم في منطقة باب الشيخ، وتعود سعاد الى موطنها الاصلي ، ليلتقوا هم الثلاثة في بيتهم، وكل واحد يحكي حكايته للآخر:

( كانت نجمة تدون كل هذا في أوراقها المتناثرة على سريرها ، هي الأمنية الأخيرة لخالها أحمد بعد أن داهمته الأيام ولم يكمل فصول روايته ، أرادها أن تكون شاهدة على جرم القدر بحقه وحق اهله ومحبيه، مات احمد بعدما أوصى نجمة أن تكمل ما تبقى من فصول المأساة، أراد أن تدون للمدن التعيسة التي لم تعرف الأمل يوماً ولا الراحة مطلقاً..

في العام 2016 حققت أمنيته التي كانت جزءاً من مراده في هذه الحياة “رماد المرايا أو مدينة الحزن السعيد” الرواية التي باشر بكتابتها من بداية الوجع حتى خروج آخر نفس من صدره، أكملت نجمة مشواره وكتبت أسفل عنوانها..

ما جاء على لسان أحمد الطيار

حكاية المدن التعيسة

وما لم ينقله التاريخ من السنين العجاف ومن رماد الحرب. ص 165  

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة