عبد علي حسن
يعدُّ الواقع المصدر الأساس الذي يستمدُّ منه النص الروائي شخصياته وأحداثه وأمكنته على سبيل التمثل أو الانعكاس أو المحاكاة. ولعل هذا المفهوم الذي ينطبق على الرواية الواقعية بكل تجليات الواقع فيها ، هو ما يمنح النص الروائي هويته ، دون تحقيق هوية الكاتب كما في المفهوم الثاني للرواية الذي ظهر كواحد من فتوحات الرواية الفرنسية الجديدة التي اهتمت بالانعكاس الذاتي للرواية ، والتي أطلق عليها بـ (ميتارواية). ووفق المفهوم الاول للرواية واعني صلتها بالواقع ، فإن واحدا من التجليات هو حضور الواقع وتفاصيله بشكل مكثف ومهيمن مع حضور قليل للواقع النفسي الذي يتشكل عادة في حالة التداعي أو تيار الوعي على نحو واضح ، حينئذ سيتداخل الزمان الآني والمستعاد ليتكشف الواقعان الخارجي والداخلي بتداخلهما الواضح والمقصود ، وهذا مانتلمسه في رواية ( عصا الساحر) للروائي عباس الحداد الفائزة بجائزة دار النخبة المصرية للطباعة والنشر / 2019 ، كما يتبدىٰ دور السارد متخذا قناع الراوي العليم الذي سيتكفل بصياغة الواقع الداخلي للشخصيات ليبدو السارد منحازاً وغير حيادياً في توصيفه لذلك الواقع ، فالرواية تتهيكل على زمنين الأول يمثل حقبة ما قبل التحول السياسي التي هيمن فيها النظام الشمولي الذي مارس أعنف أساليب الإقصاء والمواجهة والتهميش لأي معارض له ، وقد تم استعادة هذا الزمن عبر تداعيات الشخصية المركزية في الرواية ( هشام عبد الله) الذي كان منتمياً الى الحزب الشيوعي المعارض، وعبر هذه الاستعادة فإن تفاصيل السلوك اللاانساني للنظام السابق قد تمكنت من الوصول إلى المتلقي، كما أن السارد يدخل لعبة الاستعادة هذه فيقوم بتعريف المتلقي بالوضع السابق للشخصيات التي شكلت محاور للعديد من الأحداث ، كما في سرد سيرة اصدقاء هشام واعني شاكر وعيسى ، إذ أن توفر معرفة بأحوال الشخصيات في الزمن الروائي المعاصر كان يعتمد كثيرا على ما جرى لها سابقاّ، وبمعنى آخر فإن مصائر الشخصيات كانت نتيجة لوضع يتطلب الكشف عنه ومعرفته ، ليس لتيسير التلقي وحسب وانما لخلق تواتر طبيعي ومتصل في سير الأحداث ومتابعة لحركة وتأريخ الشخصيات ، بالشخصية المركزية ( هشام عبد الله) غالباً مايستعيد زمن ما قبل التحول / النظام الشمولي ، وهو في نشوته لسقوط النظام والتحرر من ربقة الاضطهاد الذي عانى منه سنوات طويلة بفعل ثوريته وانتماءه للحزب الشيوعي، ( تذكر بوجع الكلمات المخيفة التي كانوا يكتبونها في تقاريرهم السرية، لمجرد أنهم عرفوا كرهه لعسكرة الحياة ، والتطبيل ، والتزمير تحت شعار : (يا أهلا بالمعارك) ….النص ص12) ، وغالباً ما كان الراوي يفكر ويعلق نيابة عن الشخصيات فيما يتعلق باستعادة حقبة ما قبل التغيير، وفي هذا المقطع يفكر الروائي بما يفكر به هشام عبد الله أو هكذا يفترض أنه فكر ( فكر وهو يشعر بشيء من الانتشاء: ( اليوم نحن بانتظار نبوءة تكشف مراسل في قيعان قلوبنا، وافكارنا، وميولنا غير البريئة من سنين، بانتظار معجزة تعجنها يد الله، وتقذفها بعيونها التي أصابها الرمد من طول ما انتظرنا …….النص ص 14) إذ يضع الراوي نفسه في مكان الشخصية ( هشام) ليؤكد ماتحتاجه الشخصية للخروج من مأزق النظام الشمولي وأساليبه الاستبدادية ، وبما أن الراوي هو من وضع السارد (الروائي) فإن الفجوة بين الروائي والراوي والشخصية قد تم ردمها ليكون لدينا صوت واحد هو صوت الروائي ، وبذا فقد دخل النص الى منطقة المونوفونية ، مما أضعف من فرص وجود أكثر من صوت متضاد ومتناقض ، وهو مايولّد فرصة التشويق وانتظار نتائج ذلك التضاد والصراع ، وارى أن علّة التماهي بين الأصوات وجعلها صوتا واحدا هو التخويل المطلق للراوي للتدخل في مواقف ليست من اختصاصه ، سواء كانت علاقة بالسارد أو الشخصيات ، ومن الممكن الاستدلال على ذلك بمواقع كثيرة في الرواية وصلت حد التقرير في التوصيف وإطلاق الأحكام ، ونعتقد أن ذلك لم يغب عن ذهن الروائي في بنائه لشخصية الراوي أو الشخصيات ، وانما أراد أن يعلن انحيازه كاملاً لقضية (هشام) وأصدقائه شاكر وعيسى وأبناء محلته (الوردية) التي أراد لها أن تكون انموذجا لأي منطقة في العراق ، ومن خلال هذا الانحياز تؤكد الرواية وتطرح وجهة نظرها في الزمنين ، مرحلة النظام البائد ومرحلة النظام السياسي لمابعد التغيير ، الذي خيّب آمال الشعب في نظام اريد له أن يكون بديلاً إيجابياً للنظام الاستبدادي ، إلّا أن وقوعه في التضادات الطائفية والصراعات السياسية قد أضاعت الفرصة أمام الشعب للعيش في وطن يخلو من كل انواع الاضطهاد والاستغلال.
لقد كرّس النص في الزمن الروائي الأول بنية انحدار شخصية الإنسان العراقي عبر الاستذكارات وسرد ماحصل للمعارضين ولسائر الناس من قبل أجهزة الأمن القمعية ، ولعل ذلك مهد للانتقال إلى الزمن الروائي الثاني الذي كرّس فيه النص استمرارية بنية هتك المعايير الإنسانية نتيجة لتحول السرديات الصغرى التي كانت تعاني من الاضطهاد إلى سرديات كبرى تحاول فرض نمطها الثقافي والفكري والسياسي دون الأخذ بنظر الاعتبار التحول الديمقراطي الذي لم يتحقق فيه شيء يذكر سوى الاسم ، وقد تبدى ذلك في تصرفات رجل الدين (جعفر) وتواتر حوادث القتل كما حصل لشاكر وصادق ، وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وعدم قدرة القوى الممسكة بالسلطة من احداث التغيير المنتظر ، ولعل في عودة ( عيسى) من مغتربه وخيبة أمله من الأوضاع القائمة ، ما جعل الزمن الثاني مفتوحا لمزيد من التوتر وسوء الاوضاع وعلى كافة المستويات ، الأمر الذي جعل ( عيسى) يقرر العودة إلى مغتربه ، لتأكيد دلالة وجود ذات الأسباب التي دفعته للهروب من العراق في الزمن الجديد . إن لجوء النص إلى تكريس المكان الواقعي الحقيقي الراكز والمعروف للمتلقي هو محاولة لوضع المتخيل من الأحداث والشخصيات في بيئة / مكان مألوف للمتلقي ، ليقترب النص عبر هذه المقاربات الواقعية من منطقة جذب واقتران ذاكرتي النص والمتلقي ليكون النص الروائي هو نص المتلقي معايشة واستذكاراً ، وعلى الرغم من قدرة لغة النص الروائية على الوصف والإمتداد لرفد وعي المتلقي بإنثيالات معرفية وجمالية ، إلّا أن النص ظلّ في حدود البناء التقليدي الذي أراده الروائي ليصل الىٰ هدفه بشكل مباشر وانسيابي ، ليتمكن من طرح وجهة نظره أو رؤيته التي يجد صداها في وعي المتلقي الذي صار ربما أحد شخصيات الرواية التي كانت لسان حال كل عراقي .وعلى صعيد البناء الفني لرواية (عصا الساحر) فإنها ضمن ما أطلقت عليه بالرواية الإفصاحية ، إذ عمد الكاتب إلى الاعتماد على حدث حقيقي صار جزءًا من المخيال الجمعي ، كما ذهبت إلى هذا الأسلوب عدد من الروايات العراقية مثل رواية يامريم لسنان انطون وفرانكشتاين في بغداد لأحمد سعداوي وفندق كويستيان لخضير فليح الزيدي ، حيث يقسم النص الى قسمين الأول واقعي يتهيكل عليه القسم الثاني وهو المتخيل من شخصيات واحداث، ففي القسمين الَّلذين توزعا الزمن الروائي فإن ما هو متخيل قد بُنيَ على أحداث لايشكّ المتلقي في قطعية حصولها ، فما أقدمت عليه السلطة السياسية للنظام البائد من أساليب قهر واضطهاد للشعب العراقي لا يمكن لأحد أن ينكر وقوعه ، وكذلك. اعتماد المتخيل السردي في الزمن الروائي الثاني على حدث انهيار النظام السياسي الشمولي والأحداث التي توالت فيما بعد اعتبارا من نيسان 2003 ولحد الآن ، فكل ما ذكرته الرواية من مظاهر اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية إنما هي من مكونات الحياة اليومية للمواطن العراقي وقد أفصحت عنها الرواية لقربها من الذاكرة الجمعية ، ليتداخل المتخيل بالواقعي/ الحاصل فعلاً في البنية الاجتماعية بسبب من فداحة ما حصل ويحصل للفرد العراقي وتقديمه وفق خطاب جمالي متخيل وجد في تلك الأحداث مادة روائية تشكل حيزا مهماً في حياة العراقيين.