السواد على هيأة الرجل

مهند الخيكاني

كان الرجل النحيف صاحب البشرة المحمّرة والمسودة بين التجاعيد، حينما يسير في الشارع فإنه يسير بعينينِ لهما نظرة المذنب، تلك النظرة التي تورّط فيها ذات يوم جمعٌ غفير من الصالحين والأنبياء والفلاسفة والكثير من الأشخاص الذين لم تطلق عليهم صفة تبرزهم مثل غيرهم .. و   كانت هناك امرأة تُعرف بحكمتها، دائمًا ما تخبر الناس  يا ناس ، إنه الضحية .. إنه: الضحية. . دون فائدة

مع الأيام بساعاتِها المريرة وهي تطحن مشاعر الرجل، صدَّق ذلك. صدّق الرجل أنه مذنبٌ حقا وأخذت عيناهُ تعتادان على صورة الذنب وصيغته المألوفة وانعكست تلك القناعةُ على حركاتِ جسده وإيماءاتِ يديّه ، تروّضه نفوسُ من حوله ونظراتهم وثرثراتهم ، دون معرفةٍ مسبقةٍ أو لاحقةٍ بالأسباب التي أدّت الى تلك النهايات الطاردة، وبقي الرجل على هذه الحال مسجونًا حتى مماته في عيون الناس وخلف قضبان ظنونهم الفولاذية التي هي برأي الحكماء أشدّ من قضبان سجن المدينة.

وعندما سأل عابرٌ من أولئك المحلقيّن على بساط الفضول الى كل بقاع الحياة والأرض ، بعد انقضاء السنين سراعًا عن سرِّ تلك العيون المتورمة لأهل المدينة، تلك التي يختبئ خلفها ظلٌ لرجلٍ يظهر على هيأةِ سوادٍ مخنوق لناظره، يشبه الألوان المحتجزة في الكرات الزجاجية، لكنها في هذه العيون تبثُّ شيئًا من الرعب والرهبة. فقيل له إن امرأةً قبل رحيلها عن هذه المدينة الصغيرة ، حدثتهم عن قصةٍ غريبةٍ حارتِ الناسُ بأمرها بين مصدِّق ومكذِّب ، حيث تقول في قصتها:

كان هذا الرجلُ الغامض لشدة وضوحه ، يتسلل الى أحلام الناس في هذا المكان ، و يسرق نُتفًا من ظلام أنفسهم ثم يضع محلّ النتفةِ الواحدة التي سرقها بذرةً للخير يُخرجها بنفسه من ثمرةٍ تعود لشجرةٍ راسخةٍ ، جذورها تخترق الأفاق القصيّة في روحه الآمنة المسالِمة ويظل يسقيها بين حين وآخر بأن يجعل صاحبها يتفطّن على أمور دنياه.

وفي اليوم الذي حان فيه القطاف وتذوقت الناس طعمًا غير الذي ألِفوه واعتادت عليه أنفسهم، ضجّوا وانتفضوا عليه وقاطعوه ونبذوه ورموه بأقذع الألفاظ وألبسوه أبشع الصفات.

لقد كان يُعرف عن الرجل، أنه ينظر الى الواحد منهم، كمن ينظرُ الى غابةٍ كَشفت له عن مكنوناتها وضواريّها ، حيث تلينُ وتُفَكُّ ضفائرُ أغصانها، أما جذوعها فتبدأ بالانحناء الطوعيّ، حتى يصبح المشهد ناصعًا واضحًا ونقيًا كما لوحة لرسام واقعي، وحين يرى سيئاتهم شاخصة هناك، متجذرةً في طين أرواحهم ، يقبض عليها بذراعينِ مطواعتيّن من الضوء ، يمسكها مرةً من أذنيها الطويلتين كما أذنيّ الأرنب ، ومن ذيلها أحيانا كما ذيل الكلب ، وفي غالب الأوقات كان يمسكها على شكل أفاعٍ بيضاء ناعمة يتجرع لدغاتها ، ثم يقوم بسلخ جلدها الأبيض مرات ومرات حتى يظهر لونها الخبيء ، فيقول لهم:

هذه هي نياتكم ، وهذه هي أحلامكم ، إذن هذه هي حيواتكم ، جرّدوها من ثيابها لتروها على حقيقتها قبل أن تورّثوها لأبنائكم وتمنحوها فسحةَ المكوث بينكم كجزء من العائلة . لكنّهم ، أُحرِجوا عندما وضعهم أمام أنفسهم ، فتمادوا في مغازلة حيواناتهم المظلمة فحفروا له بئرا ، إذ لم يكن من الذين يسقطون في حفرةٍ تحدثت عنها الأقوال والأمثال والحِكَم.

عند ذاك أصبحتِ البئرُ مزارًا يحجُّ إليها بين عقدٍ وعقد أحدُ العابرين ممن يبحثون عن الحقيقة والإنسان والأحلام التي يجب أن يحلمها الناس ، بئرا تسكنُ في الكلام والعيون والخيال ، لا أثر لها على الأرض أو في السماء ، لا تروي ظمآنًا أو تؤوي شيئًا آخر غير السكون والظل وبعض أسرار الطين البريّ .. تظهر بين وقت وآخر للذين ساروا مسير هذا الرجل في الحياة ، ولا أحد أيضا يعرف كل أسرار الطريقة أو الطريق كي يبلغ هذا المرتقى فيُتيح للمريدين والفضولييّن مبتغاهم. وعلى هذا قررت لاحقا جماعةٌ صغيرةٌ مؤلفة من بضعة رجالٍ ، ممّن رماهم الاحتمال عن ظهره ونفدت طاقتهم في الصبر على الجري خلف مجازات هذه البئر اللانهائية ، أن يصنعوا بئرًا رمزيةً كي يسكنوا إليها ويتخففوا من عناءِ البحث وثقل التجوال من مكان الى آخر طمَعًا بالماء الساحر للبئر ، طبعا لا أحد يعلم كيف أصبح الماء ساحرا ، ذلك الماء الذي يجعل الغابة تكشف عن مكنوناتها ، والأغصان تلين والجذوع تنحني والحيوانات المظلمة ترضخ لسطوة العارف ، ثم أخذوا يشربون منها فيشعرون بالراحة ويخيَّل لهم أنهم قد امتلكوا عيونًا مثل عينيّ ذلك الرجل الكاشفة لما حُجب عن الآخرين فيخبرون من يقصدهم بما يتخيلونه ممزوجًا بما يعرفونه من قبل .. ثم صاروا يبيعون ماء هذه البئر على جميع من يصادفهم من الناس ، وحدثت المصيبةُ عندما استيقظوا ذات صباحٍ فوجدوا أعينهم متورمةً ، وهناك ظلٌ أسودُ لرجلٍ يسكن في تلك العيون كما لو أنه دمٌ محتجزٌ في اصبع.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة