د. نادية هناوي
تتسارع أحداث رواية( تسارع الخطى) للروائي أحمد خلف لتغدو أقرب إلى الرواية القصيرة التي تتأرجح بين الإتمام السردي والتأجيل المسرحي. ولأنها تحاكي الواقع الحياتي بوصفه المرجع الذي ينتقي منه الكاتب قصصه لذلك لم تعتمد البناء على فصول أو التوزيع على مقاطع؛ بل الرواية اعتمدت شكل المسرحية التي لا يكف القدر أن يخلق لها عقدها، التي لا يسع كاتبها أن يجد عقدة مثلى أو منطقية لتفسير مفاجأتها.
وقد تداخل بناء الرواية بين البنية القصصية والبنية المسرحية وهذا التداخل هو تجريب فني وظفه الروائي كاتبا قصة ممسرحة أو يمرر مسرحية قصصية، مؤكدا أن الإنسان واع وعيا حقيقيا طليعيا بطبيعته الخاصة مواجها تعدد الأحداث التي لا تنتهج نهج حدث واحد متصل الأجزاء حسب؛ بل متنوع الحبكات ومتتعدد المصائر.
وهذا ما يجعل الرواية تقترب من اتجاه المسرح الملحمي على طريقة برخت الذي كان قد أدرك ضرورة تقديم المسرحية عبر السرد وحاول أن تكون مسرحياته قصصية لا تعتمد على الحدث ولا تريد من المتفرج أن يكون ملاحظا؛ وانما تريده يقظا قادرا على العمل.
والبطل في هذه الرواية مؤلف مسرحي همُّه أن يكتب مسرحية على غرار مسرحيات غربية مثل مارا ساد لبيتر فايس أو مسرحيات عراقية على غرار المفتاح ليوسف العاني.
وتقوده هذه التمنيات إلى طريق مسدود بسبب مرارة الواقع المعيش الذي سيجعله أمام مفترق طرق لا مفر منها سوى بالجري حاثا الخطى نحو المجهول، وقد تواتر هذا الجري المتسارع مرة بالرجال الثلاثة الذين حثوا الخطى في تسارع مطرد لخطفه ومرة ثانية بالمطاردة الدراماتيكية مع خاطفيه المسلحين الذي تتبعوه إلى حانة السعادة ومرة ثالثة بتقادم الزمن وتسارع خطاه.
وهنا تتأكد فكرة واقعية حاولت الرواية توصيلها، وهي أهمية عدم الفصل بين الحياة والفن، فالحياة هي رواية تسرد ومسرحية تراجيدية تمثل وفيهما من جرأة الحياة وشراستها الشيء الكثير.
أما الاستهلال الذي اختاره الكاتب مفتاحا عتباتيا آخر يدفع بالقارئ نحو عوالم شخوص الرواية وأبعادها الزمانية والمكانية؛ فإنه عضّد ما كان الغلاف الأمامي قد لمّح إليه من خلال تناص خارجي مقتطع من قول لسان جون بيرس فيه إشارة إلى مقصدية الفعل الكتابي الذي سينتهجه الروائي مداخلا بين المسرحية كفن إلقائي سماعي وبين الرواية كفن كتابي محكي( هذه حكاية سأرويها هذه حكاية ستسمع هذه حكاية سأرويها كما يليق أن تروى سيكون سردها لطفا يفرض الاستمتاع بها ) الرواية، ص5
ولما كان مجال الشرح والتفسير وتوثيق الصلات بين الشخصية والأحداث أوسع في القصة منه في المسرحية كونها تستدعي أن يرتبط التتابع للحدث بالشخصيات بحيث تنسجم الحركة الخارجية للأحداث مع الحركة الباطنة النفسية للشخصيات؛ فإن التداخل بين هذين الفنين سيعطي مجالا لتحقيق التكامل فنيا بالإفادة من إمكانياتهما ومن هنا وظفت الحوارية من دون أن تفقد الرواية منطقها وتعددت المصائر وتصاعدت الأحداث من دون أن يؤدي ذلك إلى تلاشي السمة المسرحية فيها..
وبذلك تشكلت الرواية كوحدة فنية هي عبارة عن مقصدية حداثية ذات نزعة تجريبية غايتها تصوير الواقع المنحل بمآسيه والمنهار بأبنائه الذين ليس بمقدورهم الهرب أو الفرار.
وإذا كانت شخصية السيد عبد الله محبوكة حبكا سرديا متقنا فإنها أيضا بدت شخصية مسرحية في رسم أبعاد تحركها الواقعي والتعمق في تصوير حالتها النفسية..
ولقد نوّع الكاتب أحداث روايته عبر التضمين بين أكثر من قصة واحدة أو القصة داخل القصة، وعلى الرغم من هذا التعدد الحدثي إلا إن ذلك لم يشتت الموضوع بل حقق رباطا خفيا ركز العقدة لينكشف الواقع الاجتماعي.
ودرامية الرواية التي تلاقت فيها أكثر من قصة وأنجبت فيها القصة الأساسية قصصا داخلية كانت موزعة بقصدية متقنة جعلتها متناسقة كإيقاع سيمفوني شفاف ومنساب.وتتساوق هذه الدرامية مراهنة على التغريب كوسيلة شعورية أساسها الدهشة والمفاجأة بغية تعميق الفكرة من جهة وعامدة إلى الحوارية التي هي أساس الحركة المسرحية من جهة أخرى.
والاختطاف هو موضوع القصة الأصل إذ يجد السيد عبد الله نفسه وقد صار مخطوفا على يد عصابة مجهولة (كانوا قد احكموا شد وثاقه عصبوا عينيه بقطعة قماش سوداء حالما ألقوه في الجحر الضيق الصغير وأحاطوه من كل جانب ووثاق عينيه بدأ يزداد ضغطا عليه .. امسك احدهم ذراعه بقوة شديدة أراد أن يصرخ به لكنه لا يعرف النتائج لو فعلها) الرواية، ص72 والبطل وهو في واقعه الذي أرغم على العيش في خضمه، ليس راغبا على السير بإرادته وانما هو سائر بإرادة خارجية تحتِّم عليه الانصياع لها.
وتتفرع عن هذه القصة قصص أخرى استباقا أو استرجاعا كقصة هند ابنة أخت عبد الله وصديقها رياض وقصة المترجم الصامت الذي آثر الهجرة تاركا عائلته وراءه وقصة الزوجة الشابة التي لم تكن تفقه حقيقة عمله ومعنى الكتابة المسرحية بالنسبة إليه، وقصة عمله في المسرح وتطلعه إلى التأليف ثم قصة مسرحية الصرة التي صارت فكرة تراود عبد الله زمنا ..
ولا يتوانى الراوي وهو بإزاء هذا التضمين القصصي من العودة إلى القصة الأصل أو مغادرتها إلى لحظات سابقة للخطف أو لاحقة له، ليعود بنا مجددا لذلك اللقاء بين عبد الله والصوت الأنثوي/ فاطمة ودورها في إطلاق سراحه وبعدها يفارق السارد قصة الاختطاف متقدما إلى مرحلة الفرار من الخطف وما لحقته من قصص متداخلة كلقائه بصديقه أبي العز وما تبع ذلك من لقاءات بصديق آخر هو البصري.
وهذان الصديقان هما اللذان سيحذرانه من عصابة تترصد لخطفه من جديد فيتخذ من الحانة ملاذا له ويغير اسمه من عبد الله إلى أيوب لكي لا يفتضح أمره وهذا ما يشعره بان كل من حوله يتآمر ضده، ثم ينكفئ بنا مجرى السرد إلى ما حملته اللحظة الراهنة حين فيها دوت طلقة من خارج الحانة ليقتل شخص اسمه عبد الله. وبظهور الرجل القصير يحصل انقلاب فني في العقدة حين يناديه باسمه الحقيقي ليقبض عليه بتهمة انه مطلوب للقضاء ليكون هذه المرة مطاردا كمجرم لا كمخطوف.
وليس في هذه الاشتغال الانكفائي سمة تلفيقية بل هو مقصود لاستثارة القارئ ودفعه إلى التساؤل عن الخيط الرابط بين ما كانت هند قد أخبرت به رياضا عن خالها عبد الله وانه تاجر وسيط يعمل في الشورجة ويهوى الكتابة والتمثيل المسرحي وبين السبب الذي دفع العصابة إلى الاعتقاد انه صيد ثمين وان خطفه سيؤدي إلى الحصول على فدية كبيرة من أسرته.
وبذلك يصبح لعبد الله حضور ممسرح داخل السرد متحولا من بنية المروي إلى بنية المروي له على اعتبار أن العمل الأدبي خطاب في الآن نفسه ..
وهذا ما اتاح للرواية تحريف الواقع عبر المداخلة بين المتخيل السردي وتقاناته والياته وبين العرض المسرحي وما فيه من محاكاة وتشخيص وهذا ما نحا بالرواية منحى تداخل الشكل الروائي بالمسرحي مبنى ودلالة.
وهو ما كان الروائي أحمد خلف ومنذ روايته( الخراب الجميل) قد استلهم حيثياته عبر وعي فكري بالحداثة وإدراك معرفي بالتجريب السردي.