ذكرى غسان كنفاني.. الرقبة التي رفضت حوار السيف

ميرفت صادق

لدينا قضية نقاتل من أجلها، وهذا كثير.. وكي تتحرر فلسطين ويحصل أبناؤها على الكرامة والعدالة والاحترام والحقوق الإنسانية، يصبح القتال أساسيا، كما الحياة ذاتها”، هكذا اختصر الأديب والروائي الفلسطيني غسان كنفاني نضال الشعب الفلسطيني وغاياته.

وفي المقابلة النادرة المنشورة له مع الصحفي الأسترالي ريتشارد كارلتون ببيروت عام 1970، ردّ كنفاني على سؤال: لماذا لا تدخل منظمتكم في محادثات سلام مع الإسرائيليين؟ لماذا لا تتحدثون معهم؟، أجاب “أنت تقصد محادثات استسلام.. هذا نوع من الحديث بين السيف والرقبة”.

بالنسبة له، كان هذا السؤال بحد ذاته كثيرا على “الشعب الذي اقتلع من أرضه ورُمي في المخيمات ويعيش في مجاعة ويُقتل لـ20 عاما وممنوع عليه حتى استخدام تسمية فلسطيني”، كما قال.

أدب مقاوم

كان حديث كنفاني هذا قبل عامين فقط من اغتياله بتفجير سيارته على أيدي عملاء للموساد الإسرائيلي، في 8 يوليو/تموز 1972، وكانت برفقته “لميس نجم” ابنة شقيقته، وكان حينها ناطقا باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

ورغم مرور 48 عاما على اغتياله، لا يزال إرث غسان كنفاني الثقافي والسياسي يشكل الأرضية التي ألهمت المقاومة الفلسطينية، وهو الذي أصّل ذلك في كتابه “الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948- 1968″، قائلا “ليست المقاومة المسلحة قشرة، هي ثمرة لزرعة ضاربة جذورها عميقا في الأرض.”

وُلد كنفاني عام 1936 في مدينة عكا على الساحل الفلسطيني، وعاش في مدينة يافا حيث التحق بمدرسة الفرير وفيها تعلم اللغة الإنجليزية. هُجّر في نكبة 1948 إلى لبنان سيرا على الأقدام، ثم انتقل مع عائلته إلى دمشق، وهناك خالف طموح والده بأن يصبح تاجرا واتجه إلى الأدب، ونال إجازة في اللغة العربية من جامعة دمشق.

هناك اشتغل موزع صحف وعاملا في مطعم ومدرسا في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين بدمشق لمادتي الرسم والرياضة، ثم سافر إلى الكويت عام 1955 وعمل في التدريس. وفي عام 1960 انتقل للعمل في بيروت بصحيفة “الحرية” التابعة لحركة القوميين العرب، ثم صار رئيسا لتحرير صحيفة “المحرر” ورئيس تحرير ملحق “الأنوار” ومؤسس ورئيس تحرير مجلة “الهدف”.

وحتى اغتياله عن عمر 36 عاما، ألف كنفاني 18 كتابا بين قصة قصيرة ورواية وعمل مسرحي، إلى جانب إسهاماته البحثية، وترجم بعضها إلى عدة لغات أجنبية.

ومن أشهر رواياته “رجال في الشمس” (1963) التي أخذ عنها فيلم “المخدوعين”، و”ما تبقى لكم” (1966)، و”أم سعد” (1969)، و”من قتل ليلى الحايك؟” (1969)، و”عائد إلى حيفا” (1970)، ومنها اقتبس مسلسل بالاسم ذاته.

وفي المجموعات القصصية، كتب “موت سرير رقم 12″ و”أرض البرتقال الحزين” و”عن الرجال والبنادق”. ومن الدراسات التي خلّفها “أدب المقاومة في فلسطين” (1966)، و”في الأدب الصهيوني” (1967)، و”الأدب الفلسطيني المقاوم” (1968)، ومجموعة من المقالات عن النضال الفلسطيني تحت عنوان “المقاومة الفلسطينية ومعضلاتها”.

نقل المأساة إلى الأدب

عرفته الجماهير –كما تروي أغلفة أدبياته- صحفيا وكاتبا تقدميا جريئا، لكن الكاتب والناقد الفلسطيني إسماعيل الناشف قال إن كنفاني “نقل المأساة الفلسطينية إلى الأدب كمحاولة لإعادة موضعتها في التاريخ، ومن ثم فحص إمكانيات حلها في واقع المعاناة المعاش عبر مسلك العودة والتحرير”.

ويرى الروائي الفلسطيني يحيى يخلف أن كنفاني ساهم في حماية الهوية الفلسطينية التي تشظّت بعد النكبة، وقد “أدخل الرواية الفلسطينية بوابة الإبداع وأوجد لها حضورا في المشهد العربي والدولي”.

ويعتقد يخلف أن كنفاني أسس رواية تتضمن عناصر فنية عالية، أضاءت دروب ومسارات أجيال من الروائيين الفلسطينيين بعده ممن قدّموا إضافات تتسم بالغنى والتنوع، بحيث صارت الرواية الفلسطينية تشغل مساحة واسعة في المشهد الثقافي العربي والإنساني.

يقول يخلف للجزيرة نت “أحبه منا الكبار وكبر على محبته الصغار”، ويضيف “بعد ترجمة أعماله إلى العديد من اللغات، أوصل القضية الفلسطينية إلى عمق الأخلاقيات العالمية والثقافية، وصار رمزا خالدا من رموز أدب المقاومة وأدب الحرية على الأصعدة كافة، فلسطينيا وعربيا وإنسانيا”.

رسم نصوصه بجسده

يقول الكاتب والأكاديمي الفلسطيني محمد فرحات إن سر كنفاني كان في انتمائه الحقيقي لفلسطين، وفي تقديم إسهاماته الأدبية والسياسية في لحظة تاريخية مهمة من مسيرة الشعب الفلسطيني.

وبرأيه كان كنفاني “الأعمق من حيث الوعي الذي تضمنه أدبه ورسم بجسده أعظم نصوصه على الإطلاق، وهو في رحيله أقام التطابق الكلي بين ما كان يطلبه من أبطال رواياته وبين حياته الشخصية وخياراته”، بعد أن “قام بتبذير حياته في حياة الناس” كما وصفه الشاعر محمود درويش.

وكما كان غسان وارثا لجيل سبقه من الأدباء المناضلين أمثال إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، كان له جيل من الوارثين أيضا. لكن الزمن اختلف بعد أن تبدل وعي الفلسطينيين الذي شهد انتكاسات أطاحت بالحلم، وبعد الانشقاق بين السياسي والثقافي في المشروع الوطني الفلسطيني، بحسب تعبير فرحات.

غير أن كنفاني ظل صورة للفلسطيني المثالي الذي دعا لإنهاء المأساة بالمضي قدما في رفض الواقع والنضال لتغييره وتقدم الجماهير في دعوته، لذلك فإن الاستحضار الدائم لنصوصه بين الفلسطينيين ليس حنينا إلى أدب المقاومة، ولكن توقا إلى وعي عميق ومتمايز يُفتقد في واقعهم الحالي.

ولذلك فشل هدف اغتياله كما قال محمود درويش في “محاولة رثاء بركان”:
عندما ينسفونك..
ينسفون خطى تتقدم..
هكذا يحسبون

*عن الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة