الفيسبوك وقيح التعبير

اتاحت مواقع التواصل الاجتماعي وبنحو خاص “الفيسبوك” الفرصة لقطاعات واسعة من المجتمع كي تدلوا بدلوها في شتى القضايا، وهي خدمة لا مثيل لها من أجل تواصل البشر وتعارفهم على بعضهم البعض الآخر. لكن هذه الخدمة لم تكن خالية من المساوئ والسموم التي تنتقل من خلال الهامش الواسع من الحرية الذي تتيحه هذه الوسيلة الحضارية الراقية. وهذا الجانب السلبي يبرز بشكل سافر في العراق، لاسباب وعلل تطرقنا الى الكثير من جوانبها في العديد من المقالات والنشاطات، ولا يحتاج المرء الى جهد كبير كي يتاكد من ذلك، حيث الكروبات القطيعية وبرك الاخوانيات الراكدة وثقافة “حك لي واحك لك” والركام الهائل من العقد النفسية والاحقاد والثارات الصدئة،هي المهيمنة على اجواءه، فما أن تمرق احدى المداخلات عن علف ما يجمع عليه القوم وما يجترونه من قات الاجابات الجاهزة، حتى تنصب على صاحبها سيول من الشتائم واللعنات وكل ما في ترسانة تشويه السمعة والسيرة من مفردات الخسة والانحطاط، من دون الالتفات لمضمون ما طرحه من رأي كل ذنبه انه مختلف. وكما هو حال كل سلاح ذو حدين، يمكن أن يتحول الفيسبوك وباقي وسائل التواصل الحديثة من نعمة الى نقمة، وهذا ما نخشى منه في مجتمع تحتاج قطاعات واسعة منه الى الرعاية النفسية والحجر الصحي.

لنتصفح حال واحوال من يدعي انتسابه لنادي “الحداثة والعقلانية والحريات” واضيف اليها الكثير من راكبي موجة “الثورة والانتفاضة” في الموقف من الرأي الآخر، سنجد انفسنا وجهاً لوجه أمام ما تضمنته العبارة التي طالما رددها الفنان الراحل جعفر السعدي من حسرة ولوعة “غريب امور عجيب قضية”؛ حيث يطغى على نشاطاتهم وردود افعالهم تجاه المختلف بما يمكن أن نطلق عليه بـ “فزعة غمان” وغالبا ما يتعرض ذلك “المارق” لحملات ثوروية وفزعات تضامنية، لا تخرجه من الملة وحسب بل تقذفه بعيدا عن كل ما للآدمية بصلة. كل هذا من دون أن يؤثر ذلك على حماستهم في تدبيج المطالب الداعية للحداثة والديمقراطية وانتزاع المزيد من الحريات..! ما الذي تعنيه مثل هذه الشيزوفرينيا، التي تذكرنا بكتابات وتحذيرات عالمنا الجليل الدكتور علي الوردي، من هذا النوع من الدغل والحشائش الضارة التي تتقمص عناوين تتنافر وطبيعتها الفعلية، فالاحرار الحقيقيون يتصدر قائمة اولوياتهم شعار فولتير (1694-1778)، الرجل الذي كرس كل حياته ومواهبه من أجل حرية التعبير: “انني مستعد للموت من أجل أن ادعك تتكلم بحرية، مع مخالفتي الكاملة لما تقول”.

ما الذي تكشف عنه هذه المعطيات، غير الكم الهائل لسطوة الزيف والاكاذيب في لملوم لم يتبقى له غير ما اكتشفه معروف الرصافي عن “العلم والدستور ومجلس الامة..”. فلا حداثة ولا مدنية ولا حركات ديمقراطية في هذا البلد المنكوب بكل اشكال الهمبلة وشيطنة الآخر المختلف. الفيسبوك ونوع الهموم التي تشغل بال مستخدميه وما تتسم به غالبية ردود افعالهم؛ يطيح بكل ادعاءات وعنتريات نجومه في الانتصار لما وضعه رائد التنوير اساسا لنهضة الامم “حرية التعبير”. انها قضية ثقافة ووعي وممارسات وسلوك اشتد اغترابنا عنها بشدة، زمن “جمهورية الخوف” ولم يختلف الموقف منها كثيرا مع ورثة اسلاب تلك الردة الوطنية والحضارية، لذلك لا نستغرب تحول منحة الاقدار العابرة هذه “حرية التعبير” الى ما طفح من “قيح التعبير”..

جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة