د. نادية هناوي
قطع النقدُ الأدبي في الغرب أشواطاً كبيرةً وهو ينظِّر لقضية الأجناس الأدبية، لأهمية هذه القضية التي تعد عماد النظرية الأدبية الغربية بالعموم. وكان من تجليات مرحلة الانفتاح أن انتقلت هذه القضية من إطار نظري انغلاقي يؤمن بوجود قواعد حدية تفصل كل جنس عن الآخر الى إطار نظري يؤمن بأن الحدود واهية وأن التداخل حاصل كأمر واقع إبداعياً ومعلل ومفسر نقدياً بنظرية ( التداخل الاجناسي) بيد أنً المستغرب في هذا المجال ترك النقد الغربي أمر التداخل مفتوحاً بلا تحديدات أو مواضعات تقنن عملية تداخل جنس بجنس مثل تداخل الرواية بالمسرحية أو يفسر تعالق فن بجنس كالشعر مثلا بالرواية أو نوع بجنس مثل السيرة بالرواية، ثم مدى اصطدام هذا الانفتاح بفاعلية التقولب المعينة بقوانين والمحددة بأصول.
ولا عجب أن يتلقف نقدنا العربي هاتين النظريتين الأولى الانغلاقية وهي نظرية الأجناس الأدبية والأخرى الانفتاحية نظرية التداخل الاجناسي، مستوعباً ما عليه النقد الغربي من افتراق حول قضية التجنيس وقضية اللاتجنيس التي دعا إليها موريس بلانشو متأثراً بكروتشه، وكذلك تنظيرات جوناثان كلر عن اللانوع وطروحات تودوروف وجينيت وغيرهما. ولكن ألا يمكن إعادة النظر في مدى منطقية دعاوى نظريات التجنيس وأحقية كل رؤية من رؤى اللاتجنيس ؟ أليست بين النظريتين هوة لا بد أن تردم أو حلقة مفقودة لابد أن تعلم؟ وماذا عن الواقع الابداعي نفسه الذي لا يمكنه التنكر للتاريخ الادبي الذي عبره تترسخ الاجناس بقوالبها العملية وفروضها الفكرية ؟
هذه الاسئلة وغيرها قادتني إلى التفكير بـ( العبور الاجناسي) التي هي عملية مختلفة عن عملية التداخل الاجناسي لا تترك أمر التداخل مفتوحا على الغارب؛ بل تموضعه في أجناس أربعة بعينها هي القادرة على الاحتواء والضم لغيرها من الانواع والفنون والاجناس وهي الرواية والقصة القصيرة وقصيدة النثر والمقالة. والسبب اتساعية قالبها الذي بإمكانه مد حدوده وفي الوقت نفسه يبقى هذا القالب محافظاً على ثباته ورسوخه كجنس عابر للأجناس، وهذا ما فصلناه في كتابنا (نحو نظرية عابرة الاجناس) الصادر مطلع هذا العام عن دار غيداء للتوزيع والنشر.
وليس صعباً التفريق بين التداخل والعبور، فالتداخل هو التعالق والتناص والتنافذ والتخالط والاندماج وما شئت من المفردات ذات الدلالة الاتحادية الثنائية التمازجية التي فيها حدود الطرفين المتداخلين متآصرة. أما العبور فهو التجسير البيني الذي فيه يتم التآصر الاجناسي أولا ثم التهجين والصهر والاذابة انتقالا من جنس او نوع معبور عليه ذاب وانضوى في جنس عابر عليه صهراً وتذويباً.
وفي معرض مساعيِّ في طرح نظريتي هذه ـ التي تكفل في التوسع في تفصيلاتها كتابي آنف الذكر وكذلك في مقالات وندوات وفي أكثر من مناسبة ـ أجد أن نظرية العبور الاجناسي تلقى لدى بعض النقاد فهماً مختلطاً، يُظن فيه العبور هو التداخل نفسه، وفي هذا دلالة لا على ارتباك الفهم لنظرية العبور حسب وإنما أيضا دلالة على عدم الادراك الدقيق لنظرية التداخل نفسها التي مضى على التنظير لها ما يقرب من ستة عقود.
ومن أمثلة ما يطرح من الحجج التي بها يتصور أصحابها أن العبور هو التداخل ما يرجعون فيه إلى جوليا كرستيفا وتنظيراتها حول التناص ومقولتها المعروفة “النص ينبني كفسيفساء من الاستشهادات” التي لا تفترض فيها قوالب للنصوص بل هو نثار مختلف من التداخلات النصية التي فيها يفيد النص الجديد من النص المتناص معه، وهذا شبيه بمقولة “أن الاسد مكون من خراف مهضومة”.
ولا يخفى أن( التداخل) نظرية ناجزة وضعت أوزارها وبانت مقاصدها بينما( العبور) نظرية مختلفة بها يشطب على الثنائية التعالقية في اندماج قالب بقالب آخر ليتم الانتقال الى واحدية القالب الذي فيه يهيمن قالب على قالب بوساطة التجسير البيني بين طرف هو أقل رسوخا وثباتا إلى طرف أثبت منه وأرسخ، ليكون هذا الأخير هو الجنس الغالب الموسوم بأنه جنس عابر Genre Transit Genre
وقد قُوبل طرح هذه الرؤية من قبل أحد الباحثين بزعم أن مصطلح العبور معروف سابقا عند فيليب لوجون وهذا الزعم أيضا بمثابة دوران في ذات اللبس في الفهم وعدم التفريق بين التداخل والعبور.
ولوجون ناقد معروف بكتاباته النظرية والتطبيقية في السيرة، ومنها كتبه( السيرة الذاتية في فرنسا/ ميثاق السيرة الذاتية/ قراءة ليريس/ الانا هو الاخر / انا ايضا) وهو صاحب مصطلح( الميثاق الاوتوبوغرافي) وله كتاب يحمل هذا العنوان نشر عام 1975 لكنه لم يطرح العبور لا عرضا ولا قصدا ولا حتى كلمة واحدة في كتبه جميعها التي كانت السيرة محورها وهو الذي يعد من المتمسكين بمقولة الحد والمصطلح والتطابق وعلى أساس ذلك عرّف السيرة بأنها “حكي استعادي يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته”( من كتابه: السيرة الذاتية الميثاق والتاريخ الادبي بترجمة عمر حلي، المركز الثقافي العربي، ص8)
وفي خضم اهتمام لوجون بالسيرة تطرق إلى قضية النوع الادبي، لكنه لم يأخذ منها موقفا بخصوص السيرة فاقترح فضاء للقراءة والتأويل بالسؤالين : من أكون؟ وكيف صرت كذلك؟
ثم عاد وأكد أن الارتباط الداخلي للنص السيري لا يمكن أن يُظهر أية خصائص تفصله عن الانواع القريبة لرواية السيرة الذاتية التي وجدها تنتمي إلى نظامين: الاول مرجعي اتوبيوغرافي والآخر أدبي تتعايش فيه قراءات متباينة للنص نفسه. وعلى الرغم من أن لوجون رأى أن السيرة الذاتية ليست مجالا ضيقا أو محدودا بل نوعاً يدفع الى الانفتاح على مجالات اخرى كالتحليل النفسي والسوسيولوجيا والتاريخ؛ فإنه اقترب قليلا من التداخل الاجناسي لكنه ظل متمسكا بالمنظور الاستعادي الذي فيه السيرة جنس مستقل هو غير السيرة الذاتية أو المذكرات أو الرواية الشخصية أو القصيدة السيرة الذاتية أو اليوميات أو المقالة.
وما يجعل السيرة الذاتية متعارضة مع سائر أشكال الادب الشخصي هو وضعية المؤلف وتطابقه مع السارد او الشخصية الرئيسة او تطابق السارد معها حسب، مؤكدا أن ضمير المتكلم يتحدد عن طريق تمفصل مستويين: الاحالة والملفوظ. والمحصلة أن مصطلح الميثاق المرجعي هو الذي يحل إشكالية تجنيس السيرة والسيرة الذاتية كنصين مرجعيين يخبران حول واقع خارج عن النص. ومن ثم يخضعان لتجربة التحقيق فيكون ميثاق السيرة متمادياً على ميثاق السيرة الذاتية وأن هذه المفارقة هي سبب الخلط بينهما. وهنا يقترح مصطلحا جديدا هو النموذج أي الواقع الذي يدعي الملفوظ أنه يشبهه، متسائلا كيف يمكن لنص أن يشبه حياة ؟( المصدر السابق، ص52ـ53)
أما مصطلحه فضاء السيرة الذاتية فأراد به التفريق بين السيرة الذاتية والرواية التي إذا كانت تخييلات فقط فهي ميثاق السيرة الذاتية الاستيهامي، ولا يمكن تحديد أيهما أصح من الأخرى فالسيرة الذاتية يعوزها التعقيد والغموض والرواية تنقصها الدقة، فهل سيكون اجتماعهما هو الصحيح؟ ويجيب” من الصحيح أن النصوص التي تشكل متن نوع قد تناسلت مع النص وهو أمر بديهي تماما في حالة السيرة الذاتية” ص76 مبيناً أن نظام الاجناس بوصفه مؤسسة محكوم بقوة جمود وبقوة تغيير فهو إذ يسائل الحدود الداخلية للأدب فانه يوضح تغييرات تلك الحدود نفسها.
وبهذا يكون فيليب لوجون من دعاة نظرية الاجناس وإن مال إلى نظرية التداخل الاجناسي التي لم يقتنع بها اقتناعا تاما فظل مترددا يقترب منها تارة ويعارضها تارة اخرى. والسبب منظوره الحدي للجنس الذي فيه يفصل بين السيرة والسيرة الذاتية والرواية. ولو عَرَفَ لوجون بالدعوة الى نظرية ( العبور الاجناسي) لزال عنه الالتباس ولموافقتي الرأي أن الرواية هي الجنس الأقدر على ضم كل أنواع الادب الشخصي داخلها جاعلة إياها محتواة في قالبها مجنسة بها. وفي مقدمة تلك الأنواع السيرة والسيرة الذاتية. وعندها ستزول الحيرة والتذبذب في مدى أحقية أي من السيرة أو السيرة الذاتية في أن تكون جنساً.
ولا أجد لوجون مقصرا وهو ينشر كتابه موضع الرصد في وقت لم تكن فيه نظرية التداخل الاجناسي قد أتت أكلها بعد بشكل ناجز .. لكني أجد أن التقصير أن نكون كنقاد غير مدركين حقيقة التداخل الذي استقرت مفاهيمه تناصا وتعالقا وتنافذا وتخالطا وتثنية وقد مضى على النظرية أكثر من نصف قرن من الزمن حتى تربعت على عرش التجنيس في النقد الغربي وانتهت من دون تطوير، لتكون نظرية العبور الاجناسي هي القادم النظري الذي نأمل من نقدنا العربي أن يكون حاضنا ثقافيا له لكي يجد من ثم حضورا في المشهد النقدي الغربي وذلك هو أملي الذي أعمل عليه بما يتوفر لي من إمكانيات، وبمؤازرة الوعاة من باحثينا ونقادنا الأفاضل، والتي تحقق لي منها رصيد أعتز به وهو مباركة أستاذيَّ الناقدين الكبيرين د. شجاع العاني والأستاذ فاضل ثامر.