ذكريات عن الشارع وأشيائه

فوزي عبد الرحيم السعداوي

-12-

بعد وقت لا أستطيع تحديده وانا في مكاني قرب سوق الصفافير سمعت أصوات عراك وناسا يركضون خلف رجل يحمل قطعة قماش سوداء وكل واحد يحاول الحصول على جزء منها، وكانت تلك العباءة النسائية التي حاول نوري السعيد التخفي بها قبل مقتله.

حامل العباءة كنت أعرفه فهو عامل كردي أو تركماني يعمل في مطعم باجه قريب من محلنا ثم لاحقا أصبح يبيع رؤوس الباجة حيث يعرضها في وعاء كبير قرب سوق الصفافير وكانت آخر مرة شاهدته بها في العام ٩٣ وقد كنت أنوي التحدث معه بشأن ذلك اليوم لكني كنت اؤجل ذلك كل مرة على أساس انه موجود دائما ولاداعي للعجلة فضاعت فرصة لتوثيق جزء من حدث مهم، بعد بعض الوقت وصل جمهور من الناس وهم يسحلون جثة نوري السعيد حيث استمروا يتجولون بها في شارع الرشيد ثم شارع الكفاح (آنذاك لم يكن شارع الجمهورية موجودا) إلى ان بلت وغابت ملامحها فقام البعض بدفنها لكن آخرين أخرجوها مرة ثانية، ياللبشاعة.

قضيت معظم النهار بمعية أخوي الكبيرين في الشارع نتنقل  برغم حظر التجول بين منطقة المصارف والميدان، ولا اتذكر جيدا ان كان ذلك يوم ١٥ تموز أو الذي يليه حيث رأيث جثة متدلية من بناية مصرف الرافدين القديمة (البناية العالية لم تكن قد شيدت بعد، وقيل ان الجثة تعود إلى صباح بن نوري السعيد).

-13-

ذكرت سابقا في سياق الحديث عن شارع الرشيد اني ادركت آواخر العهد الملكي ثم العهد الجمهوري الأول، لم أحضر تلك التظاهرات المعارضة للعهد الملكي لكني حضرت فعاليتين مهمتين في طفولتي الأولى هي تتويج الملك فيصل حيث كنت صغيرا جدا لم يعلق بذهني الا مشاهد مشوشه لكني أتذكر جيدة التظاهرات التي انطلقت إثر العدوان الثلاثي على مصر في العام ١٩٥٦.

بعد ثورة ١٤ تموز كان شارع الرشيد مسرحا فقط للاحتفالات والمسيرات المؤيدة للحكم عدا مرة واحدة كان فيها تظاهرة معارضة نظمها البعثيون احتجاجا على رفع سعر البانزين ٤ فلوس وكنت في هذه الأثناء قد كبرت في العمر وزاد وعيي وادراكي السياسي.

كما ذكرت كان يوم ١٤ تموز1958 هو أول ممارسة سياسية شهدتها في شارع الرشيد، والمناسبة الثانية كانت على ما أعتقد في يوم ٥ تشرين الأول 1959 حيث نزلت جماهير غفيرة تحت تاثير الشيوعيين في حالة استنفار بعد أنباء عن عودة عبد السلام عارف من بون التي نفاه إليها الزعيم قاسم سفيرا للعراق في المانيا الاتحادية حيث ترافق مع ذلك حديث متواتر عن مؤامرة بعثية ، وكانت الشعارات متنوعة وغير موحدة بل وعفوية تركزت ضد حزب البعث والرجعية مثل “٥ بالشهر ماتت البعثية” ، لا بل ان البعض هتف “بس هلشهر ماكو مهر والقاضي نذبه بالنهر.

في الثامن من آذار ١٩٥٩ مرت ذكرى عيد المرأة في ظل أجواء سياسية مشحونة ترافقت مع محاولة انقلابية للقوميين ضد نظام الزعيم عبد الكريم قاسم المدعوم من الشيوعيين (عرفت المحاولة بمؤامرة الشواف) حيث كان الشيوعيون في أوج قوتهم فقدموا احتفالية جميلة شاركت فيها آلاف من السيدات والفتيات العراقيات بازياءهن الأنيقة والمتحررة وبالشعارات التي تمجد المرأة ودورها وتحيي نظام الحكم، كانت الاحتفالية الرسمية مقامة في سينما الخيام بحضور الزعيم قاسم حيث أثناء الاحتفال أُبلغ بالمحاولة الانقلابية فخرج مسرعا إلى وزارة الدفاع.

في الأول من آيار ١٩٥٩ كان الشيوعيون قد سيطروا على الشارع بشكل كبير ويبدو انهم أرادوا استعراض قوتهم في رسالة ليس لخصومهم البعثيين والقوميين بل لحليفهم الزعيم قاسم لتذكيره بقوتهم ودورهم السياسي الذي أرادوا ترجمته بمساهمة متناسبة في السلطة.

مثلت مسيرة الأول من آيار ١٩٥٩تحديا من الشيوعيين لكل خصومهم المحليين كالبعثيين والقوميين والرجعيين والخارجيين مثل الولايات المتحدة وعلى لسان وزير خارجيتها جون فوستر دالاس الذي قال تعليقا على الأجواء السياسية في العراق ونشاط الشيوعيين ان مايجري في نصف الكرة الأرضية الآخر هو أخطر ما يحدث في العالم، وقدرت المسيرة بمليون انسان من قبل منظميها وقدرها متحفظون ٣٠٠ ألف انسان وهو رقم يبقى كبيرا في بلد سكانه ٧ ملايين انسان.

غير ان الصورة أعقد من ذلك بكثير فلم تك كل تلك الجماهير هي جماهير الحزب الشيوعي، لقد أطلقت ثورة تموز٥٨ رغبات كامنة لدى شرائح اجتماعية لها مطالب وحقوق فانتهزت الفرصة للتعبير عن ذلك في ظل الحزب الشيوعي وتحت عنوانه وهذا الأمر يشمل الأكراد والمسيحيين وغيرهم.

كنت في الحادية عشرة من عمري لكني كما بينت في حلقات سابقة أتمتع بوعي سياسي متقدم ولدي موقف مما يجري فبرغم اني خرجت لأسهم بالمسيرة بمعية قصي إبن الضابط الشيوعي المعروف خزعل السعدي الذي عرفني به جارنا المرحوم رياض ابن الضابط الشيوعي جميل احمد فخري فانني كنت أضع مسافة بيني وبينهم فهم كانوا شيوعيين في حين كنت متأثرا بالحزب الوطني الديمقراطي لذلك سرعان ما انفصلت عنهم،

وقد بدأت المسيرة كما أتذكر بعد الظهر وفي صباح اليوم التالي استيقظت مبكرا وخرجت مع جدتي لشراء قيمر الفطور فذهلت حين رأيت بقايا وذيول المسيرة مازالت في الشارع.

لم أرَ لاحقا مسيرة بحجم و تنظيم مسيرة الأول من آيار ١٩٥٩، كانت الشعارات تغطي معظم الاهتمامات الوطنية لكن هتاف عاش زعيمي عبد الكريمي حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمي كان سببا في غضب واستفزاز الزعيم قاسم.

من شعارات تلك المسيرة

– كل من يطالبله بعمل …كالو شيوعي بالعجل

– ياموسكو يابطلة كل العروبة تساندج

– عاش الزعيم عبد الكريم …شعب العراق شعب عظيم

– آي آي آي ياشعب العراقي …عهدي بيك باقي

– منجوز من مطلبك لو دمنه سواقي

– هربشي كرد وعرب

وفي الذكرى الأولى لثورة ١٤ تموز سهرت بغداد للصباح إذ بقينا نتجول بين بيتنا في باب الأغا وساحة التحرير.

في أوائل كانون الأول ١٩٥٩ خرج الزعيم من المستشفى بعد شفاءه من الاصابات التي عانى منها جراء محاولة الاغتيال التي نفذها حزب البعث في ٧ تشرين الأول ١٩٥٩، وتقرر ان يكون اليوم عطلة رسمية، تم تنظيم مسيرة بالمناسبة برعاية الحزب الوطني الديمقراطي والتي حاول البعثيون تخريبها بواسطة مجموعة من الاشقياء يتخذون من مقهى في منطقة الخشالات مقرا لهم قاموا بافتعال حادث أربك الجمهور وغالبيته من الفلاحين فترك الكثير منهم أحذيتهم وهربوا قبل ان يستعيد منظموا المسيرة التوازن وتعود المسيرة لوضعها.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة