من خارج الجوق الى الشعر في «خارج الجوق»

يوسف عبود جويعد

في خطوة ثانية وجديدة نحو ترسيخ رؤيته الفنية في بناء النص النثري الحديث، يقدم لنا الشاعر أمير الحلاج مجموعته الشعرية النثرية الجديدة ( خارج الجوق)، معتمداً على المفردة الانزياحية التي تنتمي الى فن صناعة القصيدة النثرية الحديثة، حيث نكتشف الاهتمام الملفت للانتباه في مدى عمق هذه الانزياحات ودلالاتها ورموزها واستعاراتها وصورها التي ابتعدت كل البعد عن المفردة السهلة والاعتيادية والتي لا تمت الى البناء الشعري بصلة تذكر، لأننا ومن خلال هذه المجموعة سنصل الى الحقيقة الراسخة في مفهوم القصيدة النثرية والذي يعتمد على الإزاحة الى الصورة الشعرية، أو الرؤية الشعرية، ونقلها الى رؤية فنية تعتمد على هذا الانزياح الكبير الذي يعبر عن روح النص الشعري، الذي يتصل بجذور مسيرة وحركة تطور الشعر. فالشاعر أمير الحلاج يختار لحظة آسرة مهمة تتوفر فيها كل الادوات التي تؤهلها للانتقال الى ملكوت الشعر وواحاته العاطفية والوجدانية والإنسانية والشعرية والحسية. ولا يمكن أن يتم ذلك الا في عمليات فنية تجعل هذه اللحظة آسرة ومهمة، لينطلق الشاعر بانثيالاتها المعبرة بعد أن يغلق باب للمفردة الاعتيادية، بتضمينها رؤية إنزياحية تكون أقرب لذهن المتلقي وتنقله نحو الإحساس المتفرد، وهذا لا يخص انتقاءه للمفردة وحدها لتكون ذات حس شعري، إنما يشمل ذلك ، الإيقاع، الإنسيابية، الثيمة، وحدة الموضوع، لتكون كتلة ملتهبة تفضي بنا من خلال تلك الإنتقالة الى الهواجس والأحاسيس والمشاعر والرؤى الى عالم الشاعر ورؤاه الفنية، وأسلوبه في إعداد النص النثري الشعري الحديث، كما نجد ذلك في أول قصيدة شعرية نثرية (جوق) والتي هي ذاتها التي اختارها الشاعر لتكون بنية العنونة (خارج الجوق) حيث نكتشف بعد متابعتنا، بأنها عزف منفرد لوحدة الشاعر خارج هذا الجوق:
ربما خارج الجوقِ أعزفُ،
حيث انفرادي وقوفاً،
له نسقٌ
يملك البصمة المشرقة.
وله بابُ رؤيا
تطلُّ الى الصبح،
تنثر فوق الرؤوس،
تباشيرَ هلُّ ابتسامات عطر يضوعُ،
ولكنني أخلعُ الشمسَ من وجه طلّتها،
كلما لاحَ بعضُ بصيصِ من الليل،
يفتح نافذة لشروقي،
إلى اللحظة الآسرة.
وفي هذا النص يؤكد لنا الشاعر حقيقة اختياره لهذا المسار الفني، لبنية النص النثري الشعري، معتمداً على هذا النقل الواضح، بل والانتقال بالمتلقي، من عالمه الى حيث يريد الشاعر أن يكون وسط عمق تلك الإنزياحية الممتلئة حساً شعرياً عالياً والتي هي أكثر تعبير من غيرها، في الطواف بين الوجدان والعاطفة والوحدة والشعر، ليتأكد لنا أن اختيار اللحظة الآسرة وتوظيفها بصورة مغايرة تكون أكثر هيمنة على الذات وانصهار المتلقي في بوتقتها الفاعلة.
ثم ننتقل الى القصيدة النثرية الشعرية (الراعي) والتي جعلنا الشاعر ننظر الى تحرك وسلوك وطبيعة الراعي، من هذا المنظار، إذ أن الشاعر يترصد حركة الراعي، ولكنها رؤية فنية شعرية عميقة:
بيديه المزمارُ،
وعصاه تحتَ الذراعِ،
ومقوده الكلبُ،
يمزج الأنغام مع الهواء،
فينعشنا الشهيق،
ويمضي باستقامة القطيعُ،
ومن حنو خطاه تتبسم الحقول.
هذا الراعي
المسلح بالعصا لم يستخدمها للتهديد،
ولم يضرب خروفاً،
تملؤه السكينة والغبطة
أما قصيدة (على خط الحدود) فهي معاناة وألم وقسوة وحس محير بشكل لا يمكن أن نصل الى ما يدركه الا بعد هذه الانتقالة من الرؤية الاعتيادية الى الرؤية الشعرية الممزوجة بهذا الهم الإنزياحي، حيث نجد أن رؤية الشاعر لهذا النص تقف عند المرء وهو يقف بين دولتين، وطنه الذي سيغادره، والآخر الذي سوف يلفه بين التيه والضياع وعالم الغربة الحزين:
بين دولتين،
على خط حدود وقفتُ،
أمدُ اليمين، فتلتصق مادةٌ جذرها اليسارُ
فكأني على البرزخِ
غزتني الحيرة،
هل أخرج القدمين من سطوة الوقوف
فأمضي
وبي جهل من قادم يراودني بسطوته؟
وفي القصيدة النثرية الشعرية (عيد) يذكرنا الشاعر وبرؤية شعرية فائقة الروعة بهذه المناسبة التي رافقتنا منذ ولادتنا، وتظل طقوس خالدة لها وقعها الغريب على النفس، لأنها شحنة من الذكريات لا تنضب:
بإطلالته البهية،
تتألق الطقوس،
وتنداح مساراتُ التغني بشذا سطوته،
هو المهيمن كانفجار،
يقلب سحنة السواد المعطل،
بما تنثر الشمس من قطرات تعرقها
أو ما يفرُّ من سكينة البكاء،
بعضٌ
يطرق أبواب ذوي القربى
وبعضٌ
يتنقل في مركبات السفر
وبعضٌ
يحضن أجواء البيت،
وهكذا تنطلق المشاعر الجياشة لحب هذه المناسبة وتنقل لنا تفاصيل دقيقة ومهمة وبرؤية شعرية وبخيال خصب.
وهكذا يتأكد لنا ومن خلال رحلتنا هذه، أن الشاعر يمسك باللحظة المتجزأة من طقوس الحياة وحالاتها، ليحيلها الى بنية نصية شعرية حسية مفعمة بالحس المضمر خلف تلك الانزياحات الصورية والاستعارات التعبيرية.
وفي القصيدة النثرية الشعرية (اللجام) ينقلنا الشاعر من واقع حياتنا الى حيث الشعر، من خلال نص نثري شعري، يتحدث عن الارادة وعدم التردد، ويجب الامساك بزمام الامور، واتخاذ القرار الشجاع:
بين أن ترتقي، تقليد الطير،
وبين أن تلتحف الرمل،
فاصلٌ يطنب خط الحدود،
مرآة تصدك ضوءاً يرتد،
فأحزم أمرك للشروع،
كي لا يمسك كفيك اللجامُ.
وفي القصيدة النثرية الشعرية (متعجل) ننتقل الى رؤية جديدة، عندما يتعجل الأبن الرحيل والوداع، تاركاً ابويه شيخين كهلين وظهرين منحنيين، وحزن كبير، ولحظة فارقة موجعة:
أيها المتعجُّلُ لحَمْلِ الحقيبةِ،
قبل أن يتذوق (الأوكسجين)،
من منخريكَ الطعم،
وقبل أن يسُخنَ الزفيرُ
آليت إسدالَ الدركِ المشيَّدِ،
لالتقاط السقطِ،
لم تعر اهتماماً، لظهرين منحنيين،
كَسَرَ الصبْرُ بياضَ العيون،
وهدّ الحالُ الهمَّة،
فاستفحل الوضُعُ المجُبَّرُ،
كي تنقلب الصورة،
وفي القصيدة النثرية الشعرية (بوصلة) يقودنا الشاعر الى ضرورة الانتباه للحديث حتى وان أخترت رفاقك، لأن لا شيء يبقى في الخفاء، وانت الذي تقود البوصلة:
افعلْ ما شئْتَ،
وغير اتجاه البوصلة،
واخترْ رفاقكَ
وانطفئ في الأحاديث،
لا شيء يبقى في الخفاء،
إن الأحاديث مارست البكم
كي يبقى على حاله البدءُ
في الكرسي المتحرك يستجدي الدافع.
وفي قصيدة (نشور) ينقلنا الشاعر الى النسيان الذي يفضي الى انطلاق الذكرى كالشمس:
كلما أمعن في النسيان،
تَشرئبُّ
من رمادِ تابوتها الذكرى،
وتنبض ضوعها المتجدد بإشراق للشمس.
ضمت المجموعة النثرية الشعرية ( خارج الجوق) خمس واربعون نصاً، تنوعت من حيث الثيمة ووحدة الموضوع، حيث تنوع الحياة ومتغيراتها، بلغة شعرية انزياحية معبرة وخيال خصب ورؤية فنية رسخها الشاعر بخطوة جديدة موفقة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة