في وطن استباحته عصابات الجريمة المنظمة “حثالات الريف وأوباش المدن”، بكل ما تتميز به من ضحالة فكرية وقيمية ودونية ونذالة في السلوك والممارسات، على مدى عقود من تاريخه الحديث، لا يستغرب المرء فيه استمرار مثل ذلك الارث الاجرامي والتقاليد التي رسخها عند غير القليل من حطام البشر والقيم بعد زوال سلطتهم. وهذا ما أكدته كل الوقائع والاحداث الاجرامية التي شهدناها بعد تلقف شحاطات أطفال بغداد لرأس ورمز ذلك الارث، عندما انتشر بقوة وبشكل واسع مشهد “الملثمون” وتحت شتى العناوين والتسميات، دفاعاً عما رسخته أجهزتهم القمعية من مناخات الخوف والرعب بين سكان هذا الوطن المنكوب. لقد برهنت الاحداث الاخيرة وبنحو خاص الجريمة البشعة التي ارتكبت في منطقة السنك؛ على ان ذلك الارث الاجرامي “باقي ويتمدد” حيث ما زال العراق ومن دون بلدان الارض جميعها لا يستقبل ما يمكن أن نطلق عليه بـ “جرائم بلا عقاب” وحسب بل يتم الاحتفاء بمن يرتكبها، ومن يتصفح شيئاً من محطات تاريخه الحديث سيتعرف على ذلك عبر ما اختصرته عبارة العراقيون نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم “القاء القبض على الضحية واطلاق سراح الجاني” .
ان الاستهتار السافر بارواح المتظاهرين في ساحة الخلاني ومنطقة السنك مساء يوم الجمعة 6/12/2019 لم يكن مفاجئا ولم ياتي من فراغ، بل هو امتداد لذلك الارث الاجرامي، والذي ولج الى اطواراً جديدة بهمة قوارض حقبة الفتح الديمقراطي المبين. لقد أطاحت مجزرة السنك بكل تلك العناوين والشعارات الخاوية حول “دولة القانون” وكشفت عن فشل ساحق لجميع من تنطع لادارة ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية. لن نجافي الحقيقة ان وضعنا نصب اعيننا مهمة التصدي لوباء الدمار الشامل هذا “جرائم بلا عقاب” بوصفه الاساس والبوابة لكل تغير وتطور جدي في هذا الوطن المستباح من كل انواع “الملثمين” و”المجهولين” و”الأشباح” وما يتجحفل معها من سلالات الخسة والغدر. لقد أكدنا ومنذ البدء على ان قوة الاحتجاجات وحيويتها تكمن في سلميتها، وهي مهمة ليست باليسيرة في بلد اغترب طويلاً عن مثل هذه الثقافة وقيمها الحضارية الراقية، لكنها الممر المجرب لحصول زحزحات جدية في المشهد العراقي الراهن.
لقد أكدت التطورات وعلى رأسها المجزرة الاخيرة، على حجم نفوذ القوى التي تدفع الحراك الاحتجاجي الى حيث المسارب المتنافرة وتطلعاته العادلة والمشروعة، وبمقدور المتابع المنصف تلمس ذلك في الضخ الاعلامي والتعبوي الذي رافق الحادثة الاليمة، خطابات تدفع باتجاه محرقة (العنف والعنف المضاد)، من دون أدنى اهتمام بما يمكن ان يلحقه بمصير ووجود بلد يعرف القاصي والداني كمية السلاح بشتى انواعه والموجود بعيداً عن ارادة ما تبقى من حطام “الدولة”. كل من ما زال يقبض على شيء من العقل والوعي والوجدان يعرف جيداً؛ نوع القوى والعقائد والمخلوقات التي يقبع في قعر اهتماماتها مصير هذا الوطن وشعوبه من شتى الرطانات والهلوسات والازياء، فهم لم يخفوا ذلك في خطاباتهم وتهديداتهم لكل من تسول له نفسه في التعرض لهيمنتهم المطلقة، لذلك نراهم لم يهدأوا لحظة واحدة لتحقيق ذلك، ما خلا الحالات التي تتطلب منهم الخضوع لشعارهم المعروف “الانحناء امام العاصفة” وما يقتضيه من مستلزمات العمل عبر تكتيك الواجهات البديلة، والتي ابدعوا فيها بشكل لا مثيل له، لذلك ومع مثل هذا التشرذم والهوان، سيجد سدنة الجريمة المنظمة متسعا من الوقت والاماكن لممارسة هواياتهم، رغم أنف رائعة فيودور ديستوفسكي “الجريمة والعقاب”…
جمال جصاني