بس لو تكن الأفندية

هذه المفردة استعملت في القاموس السياسي العراقي وبنحو خاص لدى اليسار ورأس رمحه آنذاك الحزب الشيوعي العراقي، وكتابات زعيمه يوسف سلمان يوسف (فهد). حيث تشير الى شريحة من “المثقفين والمتعلمين” الذين يتميزون بالنزق وخفة الرأي والموقف تجاه قضايا بالغة الصعوبة والتعقيد، مما يؤدي الى الحاق أبلغ الضرر بها. كان ذلك في الاربعينيات من القرن المنصرم، أي زمن نهوض العراقيين وعنفوانهم الفكري والسياسي، وقد اثقلت اليوم بشحنات أكبر وأشد مما كانت عليه، بفعل سلسلة الهزائم السياسية والقيمية التي عصفت بنا (افرادا وجماعات) وعلى شتى الاصعدة، لا سيما ذلك العمل الممنهج لاكثر من ثلاثة عقود من الهيمنة المطلقة لـ “جمهورية الخوف” والتي لم يفلت من آثارها المباشرة وغير المباشرة الا النزر القليل منهم، وما خلفت تلك التجربة المريرة من حطام هائل لـ “المذعور والمعطوب”. نتعرف عليهم عبر ما نضح عنهم فيما يفترض انه مجال اهتمامهم وتخصصهم، ونضعه أمام ما يمتشقونه من أدوار وواجهات عابرة ورشاقة في الدقلات بين الخنادق والمتاريس. وقد كشفت فزعات العديد منهم في التظاهرات الاخيرة (سلفيات تحت نصب الحرية) ومحاولة لعب أدوار لا تتناسب وكل سيرتهم الذاتية و”الابداعية” عن ذلك بوضوح تام.
لدى هذا النوع من المخلوقات شغف خاص بالمحطات والمشاهد الملتبسة، حيث تخلط الاوراق وتستباح الميادين من المدججين بالصلافة والصوت العالي، وتشرع الابواب أمام تسلل نزق الافندية وحذلقاتهم النظرية البائسة. مناخات وأجواء يتم فيها تكفير كل من لا ينحني أمام اكتشافاتهم الخارقة وحفرياتهم التي جعلت من العراق؛ الوطن الوحيد الذي يتيح لـ “شعيط ومعيط وجرار الخيط” بان يصبحوا ثواراً خلال سبعة أيام. مثل هذه النشاطات التي تبدو عبر سيل واسع من الحماسة والانفعال، وكأنها تنتصر للقضايا الكبرى، تلحق فيها على ارض الواقع أشد الضرر، عندما تستهين بشروط ومستلزمات مثل هذه المشاوير المعقدة والمصيرية في تاريخ المجتمعات والدول. وهذا ما يمكن مشاهدته بجلاء في تحليلات بعضهم المجنحة عن “الثورة” وقرب ساعة تصفية الحساب مع الفاسدين وكل ارشيف الظلم والانحطاط الممتد لأكثر من الف عام وعام، مستندين الى الكم الهائل من الاوهام التي نسجوها في مخيلاتهم عن “التيار المدني” وغير ذلك من التسميات والعناوين العابرة، والتي ستصنع عراق آخر لا حياة فيه لكل ذلك الارث من التشرذم والفساد والفشل.
لقد تعرفت طوال أكثر من اربعة عقود من العمل السياسي والفكري، على نماذج ومستويات عديدة من هذه الشريحة، داخل الوطن وخارجه آخرها بعد زوال النظام المباد، حيث حاول البعض ومع ارتفاع منسوب “الثورية” مع اول موجة مما عرف بـ “ربيع العرب” لاستنساخ عنفوان واساليب وشعارات تلك الاحتجاجات، عندما انطلقت تظاهرات شباط من العام 2011 تحت نصب الحرية، حيث فشلت كل محاولاتنا لكبح ما انتابهم من حماسة وعنفوان وخطط لتلقف مقاليد امور “اللحظة التاريخية” قاذفين بعرض الحائط كل ما قدم لهم من نصائح، بالتريث في التعاطي مع المعادلات الفعلية على ارض الواقع، ولم يمر وقت طويل حتى صفر مقياس حماستهم وعنفوانهم، بعد ان تهاوت تمنياتهم على صخرة الوقائع الصلدة. بعد زوال مسببات الموجة ينكفئون سريعا الى شرنقاتهم وملاذاتهم الآمنة، من دون تحميل انفسهم عناء التوقف قليلا في علل كل تلك العنتريات الفاشوشية التي تنتفخ مع كل موسم لتسريب الاحتقانات …

جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة