بعيدا عما يعصف بالتطورات الحالية في المشهد العراقي من صخب وضجيج وحذر وقلق وترقب، ارتفع منسوبه بشكل غير مسبوق عشية تظاهرات 1/10/2019 في بغداد وعدد من محافظات العراق، وما ينتظر من التظاهرات المرتقبة في 25/1/2019، والتي شهدت نشاط اعلامي وتعبوي لم نعهده من قبل، لم تتأخر عنه جميع القوى والمصالح المتنفذة والمتغولة داخل العراق وخارجه؛ يبقى التحدي الاساس أمام من يحرص حقا على المطالب العادلة والمشروعة لهذا النشاط المنظم والمجرب “الاحتجاجات” هو الحفاظ على سلميتها وديمومتها بعيداً عن مآرب القوى والمصالح والأجندات التي لن تكف عن دفعها الى الضد من ذلك، لاسباب ودوافع لم تعد خافية على المتابع المنصف للتطورات الراهنة. من خلال متابعة ما يجري من ضخ اعلامي وعمليات ممنهجة لرفع منسوب الحماسة والغضب وبالتالي سقف المطالب الذي لن يقف الا بقلب الاوضاع رأسا على عقب “شلع قلع” وغير ذلك من رهان على القدرات التدميرية للحشود، يعني ان فرصة مثل هذا الخيار “سلمية الاحتجاجات” ما زال ضعيفاً وغريباً أمام ارث من العدوانية والعنف والثارات لا يحتاج الى كثير من الاثارة كي يستعرض مواهبه المجربة.
ان فقدان الاحتجاجات لسلميتها يصب في نهاية المطاف لصالح قوى الفساد المكشوفة والمتسترة خلف شتى الواجهات، وكل من يحاول ايهام المحتجين بقدراتهم الخارقة على اجتراح المعجزات وتحقيق الانتصار الحاسم، بعيدا عن سلاح السلمية والادارة الواعية والموحدة للتظاهرات، وامتلاكها لقائمة مطالب واولويات واقعية، تعي جيداً صعوبة ووعورة المشوار الذي طرقوه؛ يعني التفريط بكل التضحيات والجهد وروح الايثار التي ترافق مثل هذه النشاطات الشعبية؛ لصالح من ينتظر بفارغ الصبر عواقب فقدان المحرك الاساس لها “الشباب اليائس والعاطل عن العمل” لزمام المبادرة فيها. وهناك العديد من التجارب القريبة والبعيدة عن مثل هذه العواقب المأساوية. ان الرهان على خرافة الحل الحاسم والنهائي من دون الاستعداد لوعي طبيعة المخاطر والتحديات التي تحيط بنا، وحقيقة قدراتنا على قيادة مثل تلك الزحزحات البنيوية، وسط اصطفافات محلية واقليمية ودولية غاية في التعقيد والتأزم، وبنحو خاص ما يجري من عمليات كسر عظم بين الادارتين الاكثر نفوذاً في العراق، أي (أميركا وحلفاءها من جهة وايران وحلفاءها من جهة اخرى) يعني الاستهتار بابسط بديهيات النشاط السياسي والاجتماعي.
انها مهمة صعبة “سلمية الاحتجاجات ووضوح وواقعية مطالبها” ضمن المناخات والاصطفافات وحجم الالتباسات في المشهد الراهن. لانها جزء من منظومة قيمية وثقافية تمثل الضد النوعي لما هو راسخ ومهيمن لدينا (افرادا وجماعات) لكنها ستحدد مدى جدية النشاط وما يختزنه من استعدادات فعلية للاستمرار والصمود في هذه المعركة الطويلة والمريرة. من دون انعطافة فعلية في هذا المجال، يتحول كل الحديث والديباجات التي طفحت في الآونة الأخيرة، حول تبجيل واسطرة دور الشباب وتضحياتهم، والتملق المجاني لهم بوصفهم قد شكلوا قطيعة بنيوية وكل ما عرفه العراق في تاريخه الحديث؛ الى مجرد حذلقة اضافية وبائسة من المنتسبين لنادي “الافندية” لحشر انفسهم وسط حراك، آخر ما يحتاجه مثل هذه الحذلقات البطرانة. من دون شك يحمل الحراك الاحتجاجي بواكير وعي ونضج، ويعد بعد الجسم الاساس للاحتجاجات (الشباب الناقم) عن سكراب الانتلجينسيا (المعطوب والمذعور) احد مؤشراته، وعبر الدفاع عن سلميتها ووضوحها ستتقلص مساحة الخطر الذي يحيق بها، وكما قيل “بضدها تتبين الأشياء”…
جمال جصاني