في رسالة الاستقالة التي قدمها الى رئيس مجلس الوزراء كشف وزير الصحة (الدكتور علاء العلوان) عن حجم الضغوط التي تعرض لها من قوى سياسية نافذة، يمكن أن تتعرض مصالحها لأضرار من محاولاته لاصلاح حال الوزارة المزري، وما رافق ذلك من حملات تشهير في وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. صحيح ان طلب الاستقالة الذي تقدم به السيد الوزير هو الثاني في أقل من عام على تسنمه لمهام عمله فيها، لكنها تبقى متأخرة مقارنة مع قرار الامتناع اصلاً من الانخراط بمثل هذه المغامرات “المواقع” المعروفة نتائجها سلفاً. لكنها مع ذلك تعد (الاستقالة) في مثل هذا الوقت والمناخات والاصطفافات؛ موقفاً واعياً ومسؤولاً من قبل هذه الشخصية العلمية والمهنية الرصينة، تجاه شعبه ووطنه. ان دعوات البعض (وبغض النظر عن دوافعها الفعلية) لعدم قبول هذه الاستقالة، أو الطلب من الوزير لسحبها ومواجهة القوى والمصالح التي تعيق ما افترض من اصلاحات ممكنة، تفتقد لأبسط مقومات الوعي بالمشهد الغرائبي، الذي تشكل من الحطام الهائل الذي خلفته اربعة عقود لأبشع نسخة توتاليتارية عرفها تاريخ المنطقة الحديث، وما اضافته قوارض حقبة الفتح الديمقراطي المبين من ابتكارات.
هذه الاستقالة وما رشح عنها من تصريحات وتداعيات، وبنحو خاص ما كشف عنه السيد الوزير؛ تؤكد ما اشرنا اليه مراراً وتكراراً حول خطورة وضرر استنزاف الوقت والجهد والامكانات في اصلاح وتغيير ما انحدرنا اليه عبر “العطابات” والفزعات الترقيعية، والتي تنتهي بنا الى ما جربه اسلافنا وما تجرعوه من هزائم وخيبات اختصرتها عبارتهم المشهورة “صرت كناكش الشوكة بالشوكة، اداوي بكم وانتم دائي”. ان الوعي العميق لما جرى لنا في شتى مجالات الحياة المادية والقيمية خلال العقود الأخيرة بعيداً عن الحمولات العقائدية والآيديولوجية الجاهزة، والتي تقف بالمرصاد لكل المحاولات الساعية للتعاطي الشجاع والمسؤول مع مستنقعات الركود الممتدة عميقا الى تفاصيل حياتنا الجمعية والفردية؛ هو الشرط المفقود لدى غالبية تلك الفزعات والتي سرعان ما تلتحق بذلك الارث الواسع من الخيبات. كما ان التعاطي بخفة وخواء مع الميدان الاشد فتكاً في حياة المجتمعات والدول؛ أي الاقتصاد واسلوب انتاج الخيرات المادية وتراكم الثروة وتوزيعها وما يرافق كل ذلك من بناء للمعارف والقيم، يحدد سلفاً ما سيتمخض عنه كل ذلك الاصرار على الاعتصام بعروة العنتريات الفارغة.
ان ما أجبر الدكتور علاء علوان (نائب رئيس منظمة الصحة العالمية) على تقديم استقالته مجدداً، من بيئة وعلاقات ملوثة ومصالح ضيقة وشراهة وحيتان فساد واجرام منظم، لا ينحصر بوزارة الصحة فقط، فما يجري فيها لا يختلف عما يحصل في باقي الوزارات والمؤسسات الحكومية، وما اصطدم به من معطيات وملفات مرعبة، لا تختلف كثيراً عما تعرف عليه باقي الوزراء والمسؤولين التنفيذين في باقي المفاصل الحيوية للدولة العراقية؛ لكن غالبية زملائه في الفريق الحكومي لهم رأي آخر في التعاطي مع ما تضمه تلك الحقائب من مكاسب وحقوق انتزعتها كتلهم وفصائلهم عبر فقه النقاط الذي شرعته الصناديق ومفوضيتها المستقلة. لذلك تفرد هذا الوزير بموقفه بعد أن اكتشف حجم غربته وسط ذلك الفريق المثقل بهموم واهتمامات مغايرة، عما نسجه في مخيلته من آمال يتيمة وتطلعات خجولة لاصلاح حال هذه الوزارة ومؤسساتها وردهات مستشفياتها التي صارت نهباً لآخر ما توصل اليه مطبخ الكرنفالات والعراضات العشائرية…
جمال جصاني