هذا المفهوم “العدالة الانتقالية” رافق ظهور الأنظمة التوتاليتارية (الشمولية)، وقد اغتنى وتكامل بشكل واسع مع تنوع التجارب التي شهدتها البلدان والامم، ومع اتساع وتنوع التفاصيل التي رافقت تشكل ملامحه، يبقى المغزى الاساس له؛ يتمحور حول تصفية آثار حقب الاستبداد والهيمنة المطلقة عبر برنامج واسع للتعاطي القانوني والقيمي والتنفيذي مع ملفاته الرئيسة، وعلى رأسها ملف حقوق الانسان والجرائم والانتهاكات التي شهدتها، ويتم الحرص على أن لا يتلوث هذا البرنامج باي شكل من اشكال الثأر أو الانتقام أو تسخيره لخدمة مآرب عقائدية وآيديولوجية ضيقة، يمكن أن تلحق به افدح الاضرار، وتدفعه بالتالي بعيدا عن غاياته في بناء مجتمع ومؤسسات دولة قائمة على اساس العدل والحريات الواسعة والانصاف. ان مهمة “التصالح مع الماضي” تعد من اهم اسس هذه المرحلة الانتقالية، وكما كتبت حنة ارندت؛ “فان التوافق على وقائع التاريخ المشترك يعد شرطاً جوهرياً للحرية”. هذا هو المعنى والوظيفة الاساس لهذا الشوط الضروري في اعادة تشكيل حياة المجتمعات المبتلاة بمثل هذه المصائر.
منظومة القيم والاسس هذه، ظلت لا مهجورة من قبل غالبية القوى والكتل والجماعات التي تلقفت مقاليد امور عراق ما بعد “التغيير” وحسب، بل هي وعبر طفح من الممارسات والسياسات والسلوكيات المتنافرة وما اشرنا اليه، جعلت المشهد أكثر وأشد تعقيداً مما كان عليه لحظة تقوض اجهزة النظام المباد ربيع العام 2003. لحزمة من الاسباب الموضوعية والتاريخية فرط العراقيون بالقسم الاكبر من حقوقهم وحرياتهم ووعيهم، الذي اكتسبوه عبر مشوار طويل ومرير من الكفاح والتضحيات، وهذا ما ظهر جلياً فيما نطلق عليه بـ “حقبة الفتح الديمقراطي المبين” ذلك العنوان الذي يعكس حجم المفارقة في اجتماع “الديمقراطية” والجماعات المنحدرة الينا من كهوف القرن السابع الهجري. لذلك كله لا يمكن انتظار غير هذه البضائع النافقة التي يعاد تدويرها مع كل دورة انتخابية (اتحادية ومحلية) تجري على تضاريس هذا الوطن المنكوب، ولهذا سيبقى ملف (العدالة الانتقالية) ينتظر زحزحات وانعطافات ووعي ومزاج آخر، لا توجد أية مؤشرات على وجوده في المدى المنظور.
لقد تحولت كيانات ومؤسسات هذه المرحلة الانتقالية وما يرافقها من ملاكات وجيش عرمرم من الموظفين وموازنات هائلة؛ الى عبء اضافي ومعيق شديد أمام امكانية التحول المفترضة، بعد أن الحقتها الكتل المهيمنة باقطاعياتها السياسية وشبكاتها الاخطبوطية الممتدة الى تفاصيل حياة ما تبقى من دولة ومجتمع. مثل هذه الانسدادات والفشل المتواصل؛ تؤكد ما تم الاشارة اليه مراراً وتكراراً، حول التحول الديمقراطي الفعلي وشرط وجوده المتمثل بوجود القوى الاجتماعية والسياسية المعبرة عنه بوصفها الرافعة الاساس لتحول مفهوم العدالة الانتقالية من امكانية نظرية الى واقع. قوى ومصالح من الصعب ظهورها في مثل هذه المناخات والشروط والبنى التحتية، التي تستند اساساً على أحد اتعس الاقتصادات الطفيلية (الريعي) حيث تعتاش غالبية قطاعات المجتمع على صدقات النفط والغاز، والتي تحولت وارداته الى جيوب وارصدة الجيل الجديد من قوارض “المراحل الانتقالية”مما أوجد بيئة وشروط حياة تتنافر تماما ومتطلبات “العدالة الانتقالية”، وهذا ما أشارت اليه عبارة الفقيد القاضي عزت توفيق جعفر (رئيس هيئة النزاهة) قبل وقت قصير من رحيله الغامض بحادث سيارة؛ عندما قال “نحن نعمل في بيئة غير آمنة”..
جمال جصاني