حينما ينتهي عمر الحضارة في بلد ما، ويقبع المجتمع في الظل إلى أمد غير معروف، يتحول إلى مستهلك للسلع والأفكار، دون أن يتقدم خطوة إلى أمام. فمركب النقص الذي يعتريه لا يسمح له أن يغادر الهوة التي وقع فيها. ويبقى كذلك حتى يلتقط الخيط الذي يوصله إلى نقطة البداية من جديد.
لقد غفل الأشخاص الذين حاولوا إعادة بناء كهذا من قبل عن العامل الروحي القادر على إعادة دورة الحضارة. واعتقدوا أن مجرد الشروع في إقامة هياكل صناعية أو زراعية أو عسكرية أو إعلامية، يعني الخروج من النفق. ولم يدركوا أن العامل الأساس في جمع هذه العوامل مع بعضها البعض، ودمجها في مركب واحد هو الثقافة. وربما يكمن السبب في أنهم لم يجدوا فيها سوى أفكار رفيعة تتعالى على العامة، أو أنهم اعتقدوا أنها من اهتمامات النخبة فحسب.
والواقع أن جل وظائف الثقافة تتركز في الانتقال بالمجتمع من التفكك والفرقة إلى وحدة الصف وجمع الكلمة. وتتداخل بعناصرها الحية لإنتاج مكون جديد، قادر على تغيير السمات العامة له، أو وضعه في مستوى حياتي أرفع مما كان عليه. ومن المعتاد أن تصاب هي الأخرى بشئ من أعراضه الجانبية. فالثقافة تصنع الحضارة وتحمل عوامل سقوطها في آن واحد. لأنها تملك قيماً فاعلة قادرة على إرساء معالم البناء الجديد، وأخرى عقيمة توارثتها عبر عصور التراجع والظلام. فهي كما يرى البعض منظومة دالة يمكن من خلالها لنظام اجتماعي أن يتواصل ويعاد إنتاجه، أو يلتقط وسائل انهياره ويتراجع إلى الوراء من جديد.
ومن أكثر هذه العلل خطراً هي الهويات الفرعية التي تجر البلاد إلى ساحة صراع سياسي وتعمل على تفتيت الإجماع الشعبي إلى خصوصيات مناطقية وإثنية. فهي نقيض نوعي للثقافة صانعة الحضارة. وحينما تكون هناك ثمة فرصة لفرض رؤيتها على الشارع تتحول إلى بؤرة نزاع لا يتوقف حتى يبدأ ثانية.
الثقافة تضطلع بمهمة جليلة هي دعم الوحدة الوطنية عن طريق نشر منظومة قيم معيارية تنتمي إلى عموم المجتمع، متعالية على الهويات الفرعية التي تحاول السير عكس التيار. وتعمل على إعادة بناء الحضارة من جديد، بعد أن أدت عوامل محبطة كثيرة إلى تدهورها، حينما وضعتها في دور ثانوي صغير.
ثمة من يعتقد أن مهمة الثقافة تنحصر فقط في إضافة نصوص، أو صنع أعمال فنية، أو وضع شروح على متون قديمة. لكن الحقيقة أن مثل هذه الأنشطة لا تغطي إلا جانباً متواضعاً منها. فهي أداة للبناء والعمران والتهذيب والتقدم، مثلما هي وسيلة للمتعة والسعادة والبهجة والجمال. ولو لم تكن كذلك لما حظيت بهذه الهالة، ولما عني بها الناس، ولما كانت السبب في نمو البشرية. إنها الخلطة السحرية التي أنتجت أعظم الحضارات الإنسانية في العالم منذ فجر التاريخ حتى يومنا هذا.
محمد زكي ابراهيم