قبل ان تمنحنا الأقدار والتقنيات الحديثة ومواقع السوشيال ميديا، فرصة الاطلاع على مهزلة الفرار الجماعي لتجار ومتعاطي المخدرات من مركز شرطة القناة، وبذلك الشكل المخزي الذي يعري حقيقة ما يجري في مثل هذه المراكز الشرطوية، كنت قد نشرت قبل 9 اعوام تقريباً عمودا عن وضع هذا المركز واوضاعه وممارساته، بعد أن وضعتني حادثة اعتقال ولدي ذو 16 عاما من قبل احدى دورياته وبالقرب من منزلنا بحجة عدم حمله للبطاقة الشخصية، امام الواقع المزري والمشين لذلك المركز، وقد تطرقت فيه لما يحدث فيه من سلوك وممارسات تلحق أشد الضرر بما يفترض انها مرحلة جديدة في حياة العراقيين. غير انها التحقت بذلك الارشيف الضخم من الكتابات والنشاطات المنسية والمهملة، والتي سعت لتسليط الضوء على مثل تلك البرك الآسنة والبقع المعتمة في حياتنا، لتبقى هذه الاماكن والمؤسسات على ما أدمنت عليه من فساد وهيمنة للتقاليد والممارسات البعيدة عن القيم والاخلاق وابسط متطلبات الوظيفة الحكومية والامنية، حيث برهنت حادثة الفرار الجماعي الأخيرة ومشاهد عناصر ذلك المركز بملابسهم الداخلية وغير ذلك من مشاهد مخزية؛ على الحضيض الذي انحدرت اليه مثل هذه المواقع المستباحة، من قبل هذا النوع من المخلوقات الطفيلية التي يقبع في قعر اهتماماتها ما تشكلت من أجله مؤسساتهم؛ أي خدمة الشعب من دون التمييز على اساس معيار الدمار الشامل (أولاد الست واولاد الجارية).
قد ينسج البعض في مخيلته سيناريوهات جميلة حول امكانية ان تتحول تلك الفضيحة؛ الى حافز ودافع لاجراء تحولات جذرية تجفف فيها مثل هذه البرك الآسنة، لا سيما بعد سلسلة القرارات الصارمة التي اتخذها وزير الداخلية الجديد (اقالة قائد شرطة بغداد ومدير شرطة باب الشيخ والتحفظ على مدير شرطة القناة وابرز مساعديه..) لكن مثل تلك التمنيات سرعان ما ستصطدم بالشروط والمناخات القاهرة التي تحكم العملية السياسية المعاقة، والتي تعرفنا على بواكيرها بموقف حكومة بغداد المحلية واستياءها من قرارات الوزير الاخيرة، وفي نهاية المطاف ستخمد تداعيات هذه الحادثة وكما جرى لما هو أعظم منها وأشد فتكاً (اقتحام السجون واطلاق سراح اشد القتلة والمجرمين عشية ظهور داعش وغيرها الكثير..).
بالنسبة لي شخصياً ومن خلال اطلاعي على تفاصيل حياة هذه الكتل ونوع المصالح والقيم التي تجمعهم، استبعد تماماً امكانية حصول اي اصلاح جدي لا في مركز القناة وحسب بل في باقي المؤسسات والوزارات ولا سيما منها العسكرية والامنية، وهذا لا ينفي اللجوء الى ثوابت هذه الطبقة السياسية وحيتانها، وعلى رأس ذلك الاساليب الترقيعية والديماغوجية، والتي تمنحنا جرعة من التسكين تسلمنا بدورها الى طور آخر من المهازل والصدمات التي نستحقها جميعاً (افرادا وجماعات) بهذا الوعي الضحل لما يعصف بنا وهذه الهمم المنحطة التي تميزنا عن باقي سلالات بني آدم. ان اصلاح حال مركز شرطة القناة لا يمكن فصله عن المشهد العام الذي يمر به البلد، ولا يمكن له ان يشذ عن ذلك ابداً، ومن خلال قراءتنا لما يجري فيه ومتابعتنا الدقيقة لتفاصيل ما يحدث قبل زوال النظام المباد وبعده؛ نجد انفسنا عاجزين عن رصد اية اشارات على تعافي البلد وانعطافه صوب مشروع الدولة الحديثة، ولن يفضي منهج “العطابات” الى غير ما تعرفنا عليه طوال أكثر من 16 عاماً من حقبة الفتح الديمقراطي المبين…
جمال جصاني