تأثيث القيم الانسانية والروحية في (دمى وأطفال) سافرة جميل حافظ

علوان السلمان

العملية الابداعية تسجيل واع لإنسانية الانسان وقدسية الوجود، منطلقة من الواقع بكل موجوداته وابعاده، والتي يحققها نظر ثاقب وفكر واع لمفرداته المنبثقة من خياله ورؤاه الفكرية التي تكشف عما يمتلكه من خزين يوظفه في اداء رسالته الكونية.
والقصة القصيرة بوصفها شكلا فنيا ابداعيا يتسع لأسئلة ذهنية تسهم في تحريك الخزانة الفكرية للمتلقي، اضافة الى رصدها العلاقات الاجتماعية وتصويرها الواقع واستلهام تناقضاته، كونها تتعامل مع اليومي فتحتضن دفئها وتحقق فعل لحظتها الحدثي، لذا فهي تمثل روح العصر عبر لغتها الابداعية المكثفة واعتمادها الانزياح اللفظي ورمزية تمتلك قدرتها المشحونة بدلالات عميقة من خلال استنطاقها الواقع كي تنتج ابداعا يعتمد الايجاز والتكثيف، باقتناص اللحظة وتصويرها للكشف عن دلالاتها عبر لغة مشحونة تفترض التأويل.
والقاصة سافرة جميل حافظ في قصصها القصيرة (دمى واطفال وقصص اخرى) التي أسهم الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق في نشرها وانتشارها/2017.كونها تكشف عن قدرة ابداعية في تصويرها للواقع والانسان باعتمادها الحدث المركزي واللحظة المقتضبة من الواقع، فشكلت عالما متكاملا بذاته ورؤاه التي تلونت تيماته بتنوع الموضوعات التي لم تخرج عن واقعية اجتماعية.
(اقترب الجابي منه فخفق قلبه وحاول ان يندس تحت المقعد ولكنه عدل عن هذه الفكرة، ماذا لو طلب من الرجل ان يعفيه من الدفع ليشرب بهذه الفلوس العشرة كأسا من اللبن، وتوقف بائع التذاكر بالقرب من رجل هرم وسمعه يخاطبه متظرفا.
ما الذي اخرجك في هذا الجحيم يا عم؟
فرد الشيخ بصوت ضعيف: العقوق، عقوق الأبناء، وضرب على فخذه وهو يلعن تغير الزمان، وأردف بصوت مبحوح:لقد طردني ولدي وأنا في طريقي الى المحكمة، واستثار حديثه عاطفة الحاضرين فاشترك فيه بعض الركاب وود (حسن) لو استمر هذا النقاش عن آخر الزمان وعن الابناء الجاحدين ..وقال الجابي بشيء من العنف: ربما كانت هذه ارادة الله، لابد انك كنت عاقا لأبيك.
وأنهى الجابي قطع التذاكر للقسم الخلفي، وتقدم نحو الدرجة الاولى ووقف قليلا بالقرب من (حسن) وتجاوزه فتنفس الصبي الصعداء وشعر بالخيبة عندما رآه يعود بعد أن دق جرس الوقوف، ثم ارتجفت مفاصله حينما سمع صوته يقول: هات يا ولد…..)ص15ـ ص16..
فالقاصة تركز على الهم الاجتماعي كمحرك داخل بنية السرد باستحضار اللغة المحكية التي تتناسب مع الوعي الذي تمتلكه القوى المساهمة في تنامي الاحداث وبلورتها ضمن إطار الوحدات النصية، اذ تتداخل المعطيات الواقعية والتخييلية بقصدية واعية تعتمد فضاء اللحظة الذي نسقه فكرة منتقاة للتأثير في المتلقي بعد اختمارها في ذهن القاصة التي اعتمدت البناء الحدثي الافقي وزمكانية متعددة الاطر جوهرها وحدة عضوية تحتضن فكرة ومعنى متنام.
( انها تحس بأنفاس غريبة تتردد في صدرها اليوم..تحس بغموض يكتنف كل حجيرة من حجيرات جسمها..كل نبضة من نبضات قلبها ولا تدري كنهه..ولكنها تحب مثل هذا الشعور اذ يسيطر عليها انها تحب ان تشغل تفكيرها بلا شيء….أن يمتلئ قلبها بلا أدرية تزيد في قلقها و من خلال ذلك الشعور المبهم من الانقباض والانبساط تحس احساسا وهميا بأن شيئا ما..مفاجأة ما ستقع لها وتبقى تهدهد هذا الشعور الغريب حتى آخر ساعة من ساعات الليل وحينما تطفئ النور على آخر سطر من الصفحة التي تعجز عن اتمامها في الفراش بعد ان يكون النعاس قد أثقل جفنيها..انه شعور خرافي دون شك ولكنها تشعر بالارتياح اذ تكرره بينها وبين نفسها كل مرة وكأنها تتوقع أمرا سيحدث من زمان بعيد ثم لم يتحقق وتبقى تنتظر وقوعه كل لحظة في النهار..) / ص3.
فالقاصة تعتمد الثنائيات المتناقضة التي محورها الداخل والخارج مع تعدد الاطر المكانية ،اضافة الى افادتها من تقانات المونولوج والتداعي والتخيل واحلام اليقظة في تقديم الحوار بنوعيه الداخلي (الذاتي)الذي اسهم في الكشف عن اعماق الشخصية وتطور ازمتها النفسية،والخارجي (الموضوعي)الذي يجعل من الشخصيات طافية واضحة المعالم من خلال كلامها المباشر، الذي اضفى على مقاطعها الحوارية ابعادا جمالية مشوقة، جعلت من نصوصها نصوصا سردية مشحونة بالصور والمواقف وهي تنحو منحى ذهنيا، كونها تسجل مزاوجة بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي واقعي..
(عادت تمد يدها وعيناها شاخصتان الى الخارج من خلال الثغور في جدران الصريفة، لقد كان الظلام يهرب شيئا فشيئا وسمعت اصوات تنحنح المستيقظين في الصرائف المجاورة، وانطلقت احدى النسوة من صريفتها تطلب الماء فتذكرت بأن جرتها تحتاج الى ارواء أيضا، ولكن (جاسم) متى ستوقظه، انها فترة قصيرة تذهب بها الى الماء وترجع ثم توقظه، انهم ما زالوا في الليل ولم تر أحدا من رجال الصرائف قد خرج بعد، لماذا يرهق (جاسم) نفسه الى هذا الحد، ان السمك في النهر واجد وسوف لا يهرب والناس يشترونه في أية ساعة وجدوه فيها في السوق، وتابعت سيرها بين الصرائف خائضة في المياه الراكدة حولها، وظلت رجلاها تغوصان في الوحل حتى بلغت الركبتين ثم حركت المياه الاسنة بيديها الاثنتين فأقضت مضاجع البعوض في المستنقع فتطاير مطنطنا ودست جربتها في الماء وهي تتذمر من البعوض..(واجد البك اليوم واجد).. وحينما عادت الى الكوخ كان (جاسم) قد استيقظ منتصبا في وسطه وفي يده شبكة السمك، ولم يسطع أن يتمالك نفسه من الصباح في وجهها قبل أن ترمي بجرتها الى الارض.
ـ ولج ما كتلج صحيني على وكت كبل الضوه، راح اليوم الشغل راح من ادينا، وخرج دون أن يتناول فطوره فلم تكن قد أحضرت الشاي بعد..ولكنه يجب أن يأكل شيئا ما..فغرفت بيدها قليلا من التمر وركضت خلفه..) /ص63ـ ص64
لقد افادت القاصة من نصوص التراث الشعبي بأجوائه وزمكانيته وهذا اكسب لغة الحوار حضورا، ومنحها القدرة على التواصل،من خلال توظيفها للشخصيات المتوافقة وطبيعتها،وبما ينسجم مع النسيج اللغوي ويضفي عليه ملمحا جماليا،فالشخصية عندها تتحرك وفق وعيها الرافض للواقع بحكم الوعي ومستوى اللاشعور الجمعي ،اضافة الى تفاعل خلجات القاصة وأنستنها للأشياء لتكشف عن جمالية البناء السردي الذي هو جمالية معمارية تعتمد النص البصري في فضائها الذي يعبر عن حراك الذات والذات الجمعي وتوترها، فهي تستنطق الاشياء بهمسات ودفقات هادئة فتفلت من قبضة الدال الى اتساع المدلول الذي يخرج صوب الواقع وحركته مع قدرة على استدراج التاريخ من اجل توسيع الرؤيا،وسبكها ضمن وحدة موضوعية..مع استلهام الجغرافية التي مازالت مغروسة في ذاكرة القاصة والذاكرة الاجتماعية لإشباع مضامينها وهي تتأمل الازمنة باتزان عقلي، فكانت اجواء القاصة تنفعل وتتفاعل مع الحدث وتوتراته بتوهج الانفعال المقترن بحركة الواقع مع اعتماد الوصف ومداخلته مع انسيابها الشعوري ضمن اطار الواقع الاجتماعي متمثلا ذلك في لغة حوارية تستخدم المنولوج الداخلي الذي هو (حوار الذات والنفس) للكشف عن دواخل الشخصية وتفاعلها مع الخارج،فقدمت بذلك عالما قصصيا مؤثثا بالقيم الانسانية والروحية..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة