يمكن التعرف على نوع الدولة وطبيعتها من خلال التشخيص العميق لمواقفها ودور مؤسساتها ولاسيما الاعلامية منها، في التعاطي مع اساس تطور أو انحطاط المجتمعات والامم أي (المعلومة). لذلك نجد البلدان الاكثر تطورا واستقراراً وديناميكية، هي الأشد حرصاً في البحث عنها وحمايتها وبالتالي تقديمها للمتلقي ولكل المعنيين بها. عبر ايصال المعلومة الصحيحة والسليمة، تنهض الدولة باهم واجباتها تجاه رعيتها، اذ تحافظ من خلال ذلك على توازنهم واستعدادهم وقدرتهم على اتخاذ القرار الصحيح في حياتهم الشخصية والاجتماعية والسياسية، وبالتالي تؤسس لاستقرار واستعداد كبيرين للتطور والازدهار. وعلى العكس من ذلك في البلدان المبتلاة بما يعرف بـ “الدول الفاشلة” حيث لا تقع هذه المهمة “ايصال المعلومة” في قعر اولوياتها وحسب، بل تحرص اجهزتها على تزييفها ورفدها بكم هائل من الاكاذيب والأضاليل، وهذا ما تجرعناه برفقة النظام المباد، الذي كرس كل طاقاته وامكاناته كي يبقى العراقيون مغتربون عما يحصل لهم وحولهم من تحولات وتصدعات هائلة.
أما ما جرى بعد زوال ذلك النظام وبالرغم من الحريات الشكلية التي رافقته، فلم تشهد مرحلة “التغيير” انعطافة او تحولات فعلية في التعاطي مع هذا الملف، لاسباب تم التطرق اليها مراراً. وقد فاقمت التطورات العلمية ووسائل التواصل والاعلام الحديثة، التي اكتسحت البلاد بعد اغتراب طويل، ذلك المشهد بشكل لا مثيل له؛ عندما تلقفها حطام الملاكات والمؤسسات والذهنيات والتقاليد التي خلفتها عقود من الهيمنة المطلقة للنظام الشمولي السابق، ومن يتابع عمليات صناعة الرأي ونوع وحجم القوى المنخرطة فيه، وشراسة المواجهات وحجم الاموال المستثمرة في قطاعاته المختلفة ومنابره التقليدية منها والحديثة، سيكتشف مدى غرائبية ما يحصل ونوع “المعلومات” التي تضخ لعقول وذهنيات برمجت لمثل هذه الوجبات الكارثية. وسط كل هذا يتخبط ما يعرف بـ (اعلام الدولة) بمتاهة تزداد عتمة دورة انتخابية بعد اخرى، بعد أن توطدت فيه قيم ومعايير وتقاليد طاردة لكل ماهو مهني وحر ومستقل، ليستباح هذا الحقل من قبل مجاميع، آخر ما يشغلها تقصي أثر المعلومة الصحيحة وايصالها للمتلقي بمهنية وتجرد، لذلك تستمر حيرة ومتاهة الناس في الموقف من كل هذا الصخب والضجيج والضخ الواسع لاشباه الحقائق الممزوجة بكم هائل من الاكاذيب والاخبار الملفقة.
ان عدم امتلاك الحكومة الحالية لناطق رسمي يتصدى لمهمة تقديم المعلومات اللازمة عما يحصل من وقائع واحداث، يعد مثالاً واضحاً على هذا الخلل الفاضح. ومن الاهمية بمكان الاشارة الى ان من لعب هذا الدور سابقاً، لم يكونوا بمستوى المسؤولية ولم يتمتعوا بالشجاعة والكفاءة المطلوبة لمثل هذا النشاط الحيوي. بعيدا عن كثبان القضايا والملفات والاحداث والاهوال التي ظلت حتى يومنا هذا من دون اي توضيج جاد ومسؤول من الدولة ومؤسساتها المختصة، لناخذ على سبيل المثال دور اعلام الدولة في الكشف عن حادثة تبدو عابرة وبسيطة، لكنها تضخمت بشكل كبير على وسائل التواصل الاجتماعي؛ وهي حادثة اعتقال الضابط الذي يدعي انه اعتقل بسبب اعتقاله لرجل دين قام بتهريب المخدرات، حيث تركت نهباً لكل من هب ودب من نشطاء تلك المواقع والمنابر والمنصات، من دون ادنى شعور بالمسؤولية لتقديم المعلومات والمعطيات الحقيقية عما جرى، لتضيع اركان المعلومة بين القبائل الالكترونية، كل هذا ويسألونك عن الاشباح والشياطين التي تقف خلف كل هذا الضياع الممنهج…
جمال جصاني