كتب النفري “كلما قويت في الجهل قويت في العلم”.
للوهلة الاولى يبدو العنوان مضطرباً ومتناقضاً، فكيف يجتمع الجهل مع أهل المعرفة والعلم (العلماء). لكن عندما نتعرف على طبيعة ونوع من تطلق عليه هذه الصفة في مضاربنا المنحوسة، ستتوضح طلاسم هذا العنوان، فهذا اللقب تستأثر به لدينا شريحة رجال الدين (الفقهاء)، ولذلك أسباب تاريخية يعرفها المطلعون على حال واحوال هذه المجتمعات، وما مرت به من مراحل مظلمة، جعلت من يجيد القراءة والكتابة شخصاً استثنائياً وسط محيطات هائلة من الامية والغيبوبة والضياع، حيث تختصر لنا عبارتهم عمن يعرف القراءة والكتابة (يفك الحرف) مقدار دهشتهم من قدراته ومواهبه الفذة. في مثل تلك الاحوال انتزع السدنة هذا اللقب الرنان (علماء الامة). صحيح انه قد ظهر لدينا شخصيات تاريخية لامعة اجتمعت عندها المعرفة العميقة بشؤون الدين والدنيا، واعملت العقل والضمير في التعاطي مع هذين المجالين المختلفين في همومهما واهتماماتهما، مثل ابن رشد على سبيل المثال لا الحصر، لكن بعد النهاية التراجيدية لهذه الشخصية الفذة، طوب هذا اللقب (علماء الامة) الى شريحة كل موهبتها تقتصر على نقل وتدوين القيل والقال وعن فلان قال، لينتهي بنا المطاف الى من حول الفردوس المفقود (الخلافة) الى واقع على ولايات العراق والشام (داعش). ان تمكن مثل هذه العصابات الاجرامية والمتخلفة من فرض هيمنتها على محافظات بلدين (العراق وسوريا) تصدرا في بدايات القرن المنصرم حركة شعوب المنطقة صوب الحرية والحداثة والعقلانية، لم يأتي من فراغ وبوسع المتابع الحصيف الوصول الى العلل الفعلية لذلك الانحدار، والتي يمكن تلمسها بوضوح في ذلك التحالف الذي بسط هيمنته على هذين البلدين وباقي البلدان المتجحفلة معهما بنفس ذلك الوباء الا وهو (التخادم بين الاستبداد السياسي والديني). وقد تعرفنا على انموذج ذلك ايضا فيما تتخبط وسطه أم الدنيا (مصر) من تناوب بين العسكر وجماعة الاخوان. مثل هذه الاوبئة تظهر وتتمدد ومن ثم تتغول في البيئة التي تفتقد لاوكسجين الحرية وهيبة العقل والوجدان والتشريعات والمؤسسات التي تحرس “الحق في المعرفة والوصول الى المعلومة” وكل الشروط التي تكرم عيال الله.
نعود الى عنوان مقالنا والذي يبدو عسير الهضم لدى البعض، لنستعين واياهم بمقارنة بسيطة بين “علماؤنا” أي المتصدرين للمشهد الراهن لمضاربنا والذي لا يحسدنا عليه الاشقاء من الهوتو والتوتسو والذين تجاوزوا محنتهم وانتقلوا الى ما يرضي الله وما “ينفع الناس”، وعلماء الامم والبلدان التي اكرمتها الاقدار بشرعة الاعلان العالمي لحقوق الانسان وباقي التشريعات التي انتصرت لتطلعات الانسان العادلة؛ سنجد “علماؤهم” يقتفون اثر سقراط وعبارته المشهورة “لانني اعرف انني لا أعرف” أما “علماؤنا” فلا وجود لعلم وحقل معرفي لم يسبروا اغواره وتفصيلاته المملة، فتوحات ومآثر لم تتجرأ اي منها على الاقتراب من كل هذه البرك الراكدة التي تحاصرنا من كل الجهات، ولم تنعكس على معايش سكان مضاربنا المنحوسة سوى بالمزيد من جولات الفساد والفشل والاحباط على شتى مجالات الحياة المادية والقيمية. يختصر لنا محمد اركون محنتنا هذه قائلاً: “ان الدين مهجور من المثقفين الحداثيين ومتروك كلياً ليتلاعب به المشايخ التقليديون والدعاة والموظفون الدينيون المسؤولون عن تسيير شؤون العبادات والتقديس في المجتمع، كما انه متروك لمستهلكيه الذين لا يعدون ولا يحصون”…
جمال جصاني