أكيرا كوروساوا.. عرق الضفدع
كاظم مرشد السلوم
لابد لك وانت تقرأ السيرة الذاتية للمخرج أكيرا كوروساوا إمبراطور السينما اليابانية كما يطلق عليه، إلا ان تمسك قلما لتؤشر على الكثير من التحف الفلسفية السينمائية التي يذكرها، نعم انها سيرة حياة، لكن السينما تحتل المساحة الأكبر فيها، والتي تشكل درسا مهما لمن يريد ان يصبح مخرجا سينمائيا مبدعا.
يقول في مقدمة كتابه « أحيانا أفكر بموتي، وأحس بالرعب لمجرد التفكير، بأنني سأختفي من دون أن أنهي الكثير من الأشياء.» وتشعر ان كل الذي قدمه من أعمال سينمائية خالدة كان بسبب هذا التفكير، الحرص والاصرار على المواصلة حتى بعد ان بلغ من العمر عتيا.
على مدى خمس وثمانين صفحة، يسرد كوروساوا، تفاصيل حياته دون أي ذكر للسينما، التي لم يدخل عالمها بعد، لكن هذه الصفحات تحكي النشأ الصحيح، الذي مهد لان يصبح الصبي المدلل من قبل أبيه، مخرجا كبيرا يشار له بالبنان، أب شديد وطيب، هو من فتح عينيه على السينما، من خلال اصطحابه الى دور عرضها، وأخ داعم وان بتعالي، مهتم بالسينما، ومفسرا للأفلام الصامتة، وضع له يوم ما قائمة بأهم الأفلام التي تستحق المشاهدة ، لتبقى عالقة بذاكرته وكانت بمثابة النظرة الأولى المهمة لعالم سيدخله مستقبلا من أوسع أبوابه، وأم مثل كل الأمهات، أصدقاء عديدون، أحدهم يرافقه للأخر، لا يترفع عن ذكرات مشاكساته وشطحاته، لأنه يعرف جيدا انها هي التي عملت على انن يكون صلبا مستقبلا.
البداية رسام ومهتم في الفن التشكيلي ومدارسه المختلفة، ورغم متابعته لعالم السينما، الإ انه لم يفكر يوما ان يعمل فيها، لكن أعلانا لشركة سينمائية تطلب مساعدي مخرجين، قادته لهذا العالم الكبير والمتعب جدا.
عمله كمساعد مخرج مهد ليكون مستقبلا مخرجا متسلحا بما يلزم من أدوات تمكنه ممن صنعته، بعض هذه الأدوات هي معرفته الواسعة بالفنون الأخرى» كنت قد كونت معلومات هائلة عن المسرح، الموسيقى، الفن التشكيلي، الفنون الأخرى، ولم أتخيل للحظة أنني سوف أستخدمها مستقبلا» خصوصا الفترة التي عمل بها مع مخرج مميز هو المعلم « ياماسان» الذي سيبقى يتعلم منه، حتى بعد ان أصبح مخرجا عالميا يحصل على أهم الجوائز السينمائية.
كتب وأشترك بكتابة السيناريو لأفلامه وللعديد من الأفلام لمخرجين أخرين ، ويقول» لا يمكن للمرء ان يصبح مخرجا ، ما لم يكن يعرف كتابة السيناريو» ،» أن يكتب المرء صفحة واحدة كل يوم، فأنه يستطيع ان يكتب سيناريو من 365 صفحة على مدى عام».
تأتيه مواضيع وأفكار أفلامه من أي شيء يسمعه او يلتقيه، من الطبيعة التي يعشق» من عادة الطبيعة ان تحمي مظهرها الخارجي، وهي لن تصبح قبيحة من تلقاء ذاتها، وإذا كان هناك من قبح، فأن ثلة من الناس الأشرار وراءه» وكم ساعدته هذه الطبيعة في انجاز بعض المشاهد الخارجية التي يحتاج فيها لريح او مطر، فاستجابت له، بان أرسلت ريحا ومطرها في يوم لم يكن لأحد ان يتوقع ان رياح عاتية ستهب، او مطر غزيز سينهمر في هذا اليوم، وهو ما كان يحتاجه لإتمام مشاهده.
لا يؤمن بمسقط الرأس « في أي بلد أحل به، لا أحس نفسي غريبا عليه رغم أنني لا اعرف لغة أجنبية واحدة، الكرة الأرضية هي مسقط رأسي، ولو رأى البعض المآسي التي ترتكب بحق البشرية في هذا العالم، لتوقفوا عن الزعم بخصوص، مسقط الرأس».
ويضيف « أن الأوان لأن تعي البشرية حجم المأسي والكوارث التي ستلحق بها، يقلقني أن هذه البشرية نفسها ترسل الأقمار الصناعية الى الفضاء، وفي الوقت نفسه، تنكش في الأرض بين ساقيها مثل كلاب مسعورة، اسأل ما الذي سيحل بمسقط رأس الأرض؟»
كذلك تأتيه الأفكار من الأغاني التي يسمعها من خلال مذياع مقهى ما، او أغني لفلاح في مزارع القرى، تلك الأغاني التي كلماتها بسيطة ونابعة من القلب، وتعكس الاحداث، بصدق وأمانة « قلت للوافدين حديثا على صناعة السينما، ومن بينهم من عمل معي، إن أغاني تلك الأيام تصلح لأن تكون سيناريوهات أفلام، وعليهم أن يدرسوا بإمعان البناء الدرامي لها»، هذا القول ذكرني بقول الجاحظ « المعاني ملقاة على الطرقات» .
لم تكن رحلة الإخراج لكوروساوا سهلة، بل اعترتها الكثير من العقبات خصوصا من قبل الرقابة الصارمة التي تعرقل الاعمال السينمائية، بحجة محاربة كل ما هو « أنكلو أميركي» الأمر الذي تسبب بتأخير انجاز الكثير من الأفلام، لكنه تعلم ان تكون لديه روح المطاولة في التعامل مع مسؤولي هذه الرقابة، بل حتى السخرية منهم، وان كان لصديق المخرج» يامسان» دور كبير في إزالة الكثير من العقبات، لذلك يفرد له كوروساوا فصلا كاملا في كتابه.
لك فلم من أفلامه حكاية، كيف تكونت الفكرة، من عمل معه أبطاله ، كيف تعامل مع كادره، خصوصا الممثلين ، يقول « حتى يصبح المرء مخرجأ، ينبغي له ان يجيد إدارة الممثل، وكل شيء يحدث في موقع التصوير»، ويضيف « إذا حاول المخرج إرغام الممثل على الشيء الذي يرغب فيه، سوف يحصل على نصف النتيجة، ولكن إذا دفعه في الاتجاه الذي اختاره الممثل نفسه، فانه سوف يحصل على أضعاف ما بداخله» ولهذا أدى ممثلوه أدوارهم بحرية تامة ، وأبدعوا إياما أبداع.
يعترض كوروساوا على إعادة انتاج الأفلام الناجحة ، او عمل جزء ثاني لها ، ويصف ذلك بالقول» ان ذلك يشبه من يطبخ طعاما من بقايا قشور الباذنجان مثلا ، بعد أن طبخت الباذنجان نفسه في المرة الأولى».
حين يصل الى فلمه الذي يعتبره الأهم « راشمون» الحائز على جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية ، وكذلك جائزة الاوسكار، ويتحدث عن كل تفاصيل انتاجه ، ورفضه من قبل الرقابة، وصولا الى نيله جائزة الاوسكار، يتوقف ولا يكمل سيرته، يقول» الان عندما أصل في مذكراتي الى بوابة راشمون، أجد نفسي لا أرغب بالمرور منها، هذا أفضل، فاذا أراد أحد ان يعرف ما حل بي بعد « راشمون» فليحدق في ابطال الأفلام التي أخرجتها من بعده.
ويختم كتابه بالقول» لا شيء في العالم يمكن ان يكشف المبدع مثل إبداعاته نفسها، لا شيء على الاطلاق».