شاءت الأقدار ان تضع وزارة التربية والتعليم في آخر ركب التشكيلة الحكومية، حيث ما زالت من دون وزير، بعد فشل الجلسات البرلمانية المخصصة للتصويت على ذلك، وهي نتيجة تنسجم ومكانة هذه الوزارة لدى جميع كتل الطبقة السياسية التي تلقفت مقاليد أمور البلد بعد زوال النظام المباد. موقف يشير الى ان أمر هذه الحقيبة الوزارية يقبع في قعر اهتماماتهم، ومثل هذه المواقف يمكنها مساعدتنا بفك طلاسم الكثير من هذا العجز والفشل الذي لم يكف عن مرافقتنا طوال عقود ما قبل “التغيير” وبعده، لأن الموقف منها اصبح اليوم معياراً للتمييز بين الدول المتقدمة والاخرى الفاشلة (والتي ما زلنا حتى هذه اللحظة ننتمي اليها). في عالم اليوم والذي تشكل روحه المعلومة والمعرفة، أصبح الاستثمار في التعليم هو الاساس للاستقرار والازدهار، وهذا ما لم يحصل على تضاريسنا المنكوبة بهرم الاولويات المقلوب، حيث يهجر هذا الحقل الحيوي (التربية والتعليم) لصالح مخلوقات ومناهج وقيم ومناسبات واهتمامات وهموم وتقاليد، تمثل الضد النوعي لما يعرف اليوم بالتعليم التفاعلي والذي يستند الى قاعدة واسعة من التفكير النقدي والنقاش الواسع.
وفي علل اصرار مثل هذه الكتل والجماعات على التعاطي بهذا الشكل اللامسؤول مع هذا الملف الحيوي، الذي تتم في ورشه تزويد الاجيال الجديدة بكل المعارف والمهارات اللازمة لمواجهة تحديات عصرها يقول طاغور: “تحتاج الوطنية المتشددة الى تبلد الضمير الأخلاقي، الى اناساً لا يتعرفون على الفرد، يتكلمون بلسان الجماعة، لا يطيقون الفن بوصفه عدو عظيم للتبلد، يقوض الحجب لرؤية العالم بطرق جديدة..”. لذلك يصبح هذا التهميش وعدم الاهتمام الذي تحظى به هذه الوزارة في العراق، كجزء من عمل ممنهج ينسجم وحاجتهم الى “التبلد” الكفيل ببقاءهم وتمددهم على سنام السلطات وتفاصيل حياة المجتمع (افرادا وجماعات). ومن يشغله هم المأزق الراهن الذي يتخبط وسطه العراقيون من شتى الرطانات والهلوسات والأزياء؛ سيجد في المستوى الذي انحط اليه التعليم جواباً للكثير من جوانب المتاهة التي يعيشونها، وهذا ما عكسته اربع دورات انتخابية خاضوها بعد “التغيير” ونوع الشخصيات والكتل التي وصلت بفعل اقتراعهم الى؛ سنام السلطات الثلاث وغير ذلك من سكراب المنظمات والاحزاب والنقابات.
في الموقف من التعليم يتأكد لنا طبيعة التنافر الحاد بين المصالح الحيوية والمستقبلية للعراقيين والطبقة السياسية المهيمنة، التي تفتقد لاي مشروع جاد للنهوض بحطام المدارس ومؤسسات ومناهج وملاكات التعليم الحالية. وما ترك أمر هذه الوزارة الى مشيئة السيد خميس الخنجر وفقاً لما تمخضت عنه صفقاتهم اللاسياسية، الا دليل على ما يضمرونه من مشاعر واحاسيس مضطربة وملتبسة تجاه هذه الوزارة المهجورة. هذه المعطيات والمواقف غير المسؤولة تشير الى اننا ما زلنا بعيدين عن كل ما يمت بصلة لفزعات “البناء والاصلاح” والتي لن تقوم لها قائمة من دون قرارات وخطوات فعلية لانتشال التعليم من محنته ووضع قاطرته على الطريق الذي دشنته الامم والبلدان التي وصلت لسن التكليف الحضاري، وهذا خيار ما زال بعيداً عما نعيشه من مناخات واصطفافات وهموم انتهت صلاحيتها منذ زمن بعيد، لذلك ستبقى الوزارة الأكثر اهمية وتأثيرا في رسم مصائر الامم (التربية والتعليم) مسرحاً لعبث هذه الجماعات المدججة بالشراهة وضيق الافق والاولويات القاتلة…
جمال جصاني