مايكل آيزنشتات
في الوقت الذي يهدّد فيه ردّ الجيش الإيراني على حملة «الضغط الأقصى» الأميركية بإطلاق شرارة صراع أوسع نطاقاً، على صانعي القرار في الولايات المتحدة أن يأخذوا في الاعتبار العبر التي استقوها من المواجهات العسكرية السابقة. ففي عدة أحداث على مدى العقود الثلاثة الماضية، تعاملت واشنطن مع تحديات مماثلة من التصعيد والإكراه والردع، بما فيها عمليات القوافل البحرية خلال الحرب الإيرانية -العراقية، والمساعدة المهلكة التي قدمتها طهران للجماعات المسلحة الشيعية التي «تقاوم» احتلال الولايات المتحدة للعراق، وحملات الضغط المتنافسة التي سبقت الاتفاق النووي المبرم عام 2015.
حملات الضغط المتنافسة
(2010 – 2012)
في ضوء استعداد إيران لمواصلة أنشطتها النووية التي انتهكت ستة قرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي، أقدمت الولايات المتحدة وإسرائيل والاتحاد الأوروبي على زيادة الضغوط من أجل وقف هذه الأنشطة إما قسراً أو من خلال المفاوضات. وكثفت واشنطن وإسرائيل حملتهما المشتركة من الهجمات الإلكترونية على البرنامج النووي، واستمرتا في ذلك على الأقل حتى عام 2010. وأفادت بعض التقارير أن إسرائيل اغتالت عدداً من العلماء النوويين الإيرانيين اعتباراً من العام نفسه، بينما استمرت أيضاً في تصعيد تهديداتها باتخاذ تدابير وقائية ضد البنية التحتية النووية الإيرانية. من جهتها، عززت الولايات المتحدة وجودها العسكري الأمامي في الخليج من أجل التعامل مع التداعيات المحتملة لأي ضربة إسرائيلية، كما كثفت عملياتها بواسطة طائرات من دون طيار فوق إيران والمناطق المحيطة. وربما الخطوة الأهم من ذلك هي فرض واشنطن والاتحاد الأوروبي عقوبات متشددة على «المصرف المركزي الإيراني» وقطاع النفط في البلاد في الفترة 2011-2012. ومع ذلك، فإن التهديد بالتصعيد ردع الولايات المتحدة عن استعمال الوسائل العسكرية للضغط على إيران.
وردّت إيران بالمثل متجنبةً خطوات قد تثير صراعاً أوسع. فأطلقت هجمات إلكترونية على مؤسسات مالية أميركية (2012-2013) وعلى شركة النفط العملاقة «أرامكو السعودية» (2012)، وخططت لشن هجمات على دبلوماسيين إسرائيليين رداً على اغتيال علماء (2012)، وحاولت إسقاط طائرات أميركية من دون طيار في الخليج (2012-2013)، كما سرّعت وتيرة برنامجها النووي من خلال زيادة عدد أجهزة الطرد المركزي العاملة ومخزونها من اليورانيوم المخصب.
ووقعت حملات الضغط التنافسية هذه في شرك حملات سرية أخرى، وحروب الظل، ونزاعات علنية سبقت في الكثير من الحالات الأزمة النووية، بما فيها الصراع بين إسرائيل و «حزب الله» والتنافس الجيوسياسي بين السعودية وإيران، والحرب في سوريا. ولم يسفر انخراط العديد من الجهات الفاعلة التي تعمل بشكل مستقل أو منسّق سوى عن تعزيز إمكانية تغيير الأسلوب والتصعيد غير المتعمّد.
وفي نهاية المطاف، خفّت حدة التوترات لعدد من الأسباب. فقد قامت الولايات المتحدة وإسرائيل بتقليص هجماتهما الإلكترونية في وقت ما بعد اكتشافها من قبل إيران في عام 2010؛ وأوقفت إسرائيل قتل العلماء الإيرانيين وتوقفت عن التهديد باتخاذ تدابير وقائية، وخفضت واشنطن تواجدها في الخليج رداً على تراجع إسرائيل والاقتطاع في الموازنة العسكرية الأميركية على السواء. والأهم من ذلك، بدأت العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تؤتي ثمارها وكانت المفاوضات النووية تكتسب زخماً. وفي حين أن الخطوات السرية وحملات الضغط العسكرية أبطأت البرنامج النووي الإيراني، إلا أن العقوبات هي التي دفعت إيران في نهاية المطاف إلى الجلوس على طاولة المفاوضات. ومع ذلك، ساهمت الشوائب في الاتفاق النووي المبرم عام 2015 في قرار إدارة ترامب في أيار/مايو 2018 بالانسحاب من الاتفاق، مما مهد الطريق للأزمة المندلعة حالياً.
التداعيات على الأزمة الحالية
يمكن استخلاص عدة استنتاجات من هذه المواجهات السابقة مع طهران:
إيران تُظهر ثباتاً استراتيجياً ومرونة تكتيكية. حالما يلتزم النظام الإيراني باتجاه استراتيجي معين، غالباً ما يكون من الصعب صرفه عن هذا المسار. وستختبر طهران مراراً أو تحاول تفادي الخطوط الحمراء التي يفرضها خصم ما، وفي حين أنها قد تقلع عن نهج معين عندما تواجه رداً حازماً، فإنها سرعان ما تبحث عن وسائل بديلة لتحقيق أهدافها. وقد تتخلى عن هذه الأهداف إذا أصبحت مكلفة للغاية، ولكن مثل هذا القرار قد يعتمد على تقييمها لدوافع واشنطن، وتحمّلها للمخاطر، واستعدادها لتحمّل تكاليف خاصة بها. وفي مواجهة حملة الضغط الأقصى التي تنفذها واشنطن، قد يعتقد القادة الإيرانيون أنهم يحاربون من أجل البقاء، وبالتالي فقد تتجاوز قدرتهم على المخاطرة والتكاليف التي سيتكبدونها تلك الخاصة بإدارة ترامب.
إيران تفضّل المراوغة والغموض والخطوات المدروسة والصبر. أدرك قادة الجمهورية الإسلامية منذ فترة طويلة أن سياساتهم المعادية للوضع الراهن غالباً ما تُدخلهم في صراع مع الولايات المتحدة. ومن أجل الحد من احتمال التصعيد، اعتمدوا على الوسائل غير المباشرة أو السرية (على سبيل المثال، الألغام)، ولجأوا إلى الوكلاء لتوفير الحيطة وإمكانية النكران، كما اقتصرت ردودهم على تلك الانتقامية، وحافظوا على وتيرة عملياتية متدنية.
وكانت بعض تصرفات إيران خلال الأزمة الراهنة متسقة مع هذه السوابق. وتماشياً مع مقاربتها الانتقامية، فجّرت إيران ناقلات نفط رداً على تجديد العقوبات النفطية، وكذلك ناقلات مواد بتروكيماوية رداً على العقوبات المفروضة على أكبر شركاتها البتروكيماوية. وفي خضم ذلك، حاولت تجنب وقوع خسائر في الأرواح، سواء من خلال زرع الألغام المغناطيسية بعيداً عن أماكن تواجد طاقم السفينة أو استهداف طائرة استطلاع من دون طيار. ويشير ذلك إلى أن إدارة المخاطر والتصعيد تبقى من أولويات طهران.
لكن في حالات أخرى، ابتعدت إيران عن السوابق. ففي 2012-2013 على سبيل المثال، أطلقت النار على طائرات تكتيكية أمريكية بدون طيار، لكن خلال الأسبوع الماضي أسقطت طائرة استراتيجية من دون طيار من طراز «آر كيو-4 غلوبال هوك». فضلاً عن ذلك، فإن نطاق العمليات الحالية ووتيرتها قد يتجاوز الحملات السابقة عند الأخذ في الحسبان خطواتها الأخرى المنفذة مؤخراً في مياه الخليج (هجمات على ناقلات نفط)، وفي العراق (إطلاق صاروخ من وكلاء [إيران] على منشآت أميركية)، وفي شبه الجزيرة العربية (هجمات الحوثيين بطائرات بون طيار على خط أنابيب نفط سعودي). ونظراً إلى العقوبات الأميركية المتشددة على نحو متزايد والوضع الاقتصادي المتدهور في إيران، هناك احتمال في الابتعاد حتى بصورة حادة أكثر عن النمط المعتمد سابقاً.
على واشنطن أن توازن بين التعقّل وضبط النفس والتصعيد. في بعض الأحيان، أدّى ضبط النفس الأميركي إلى مواجهة تحديات إضافية من جانب إيران، مما أدى إلى نفس النتائج التي كان صناع السياسة يأملون في تجنبها. وفي أوقات أخرى، حالت المخاوف المبالغ فيها من التصعيد دون قيام المسؤولين الأميركيين باستخدام جميع الوسائل المتاحة لهم لتحقيق أهداف السياسة الرئيسة. وخلال الأزمة الراهنة، تؤثر كلتا الديناميكيتين على أرض الواقع. واعتمدت حملة الضغط الأقصى التي تنتهجها إدارة ترامب بنحو رئيس على عوامل الدعم الاقتصادية والدبلوماسية، متجنبةً إلى حدّ كبير الأداة العسكرية. ومن شأن ذلك أن يحث إيران حتى على القيام بأعمال أكثر عدائية. وبالمثل، أظهر قرار الولايات المتحدة بتنفيذ هجمات إلكترونية رداً على حادثتي الناقلات و»آر-كيو 4» عزوف الرئيس ترامب عن اللجوء إلى الخطوات العسكرية. ومع ذلك، فإن قدرة الإدارة الأميركية على ردع ردّ إلكتروني إيراني يحمل عواقب استراتيجية قد تتوقف على الاستعداد الملموس لهذه الإدارة لاستخدام وسائلها العسكرية التقليدية التي تجنبتها حتى الآن.
مايكل آيزنشتات زميل «كاهن» ومدير برنامج الدراسات العسكرية والأمنية في معهد واشنطن. ويود أن يعرب عن تقديره لـ ديفيد كريست و غريغوري جايلز، اللذان أفادا بعملهما كثيراً هذا المرصد السياسي.
معهد واشنطن