بداية لابد من الاشارة الى ان تطرقنا لمثل هذه العناوين، لا يعني اننا نوجهها للمعنيين الحاليين بمثل هذه المواضيع والملفات، فالتجربة برهنت وبما لا يقبل الشك على عدم وجود مثل تلك الاهتمامات لديهم، بدليل مصير المئات من الاعمدة والمقالات التي ظلت من دون ادنى اهتمام يذكر من قبل هذا الطفح من “المسؤولين” الذين ابتلت بهم ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية. اننا نكتب لانعدام الخيارات الاخرى ولكونها (الكتابة) هي ملاذنا الاخير وسط هذه المناخات والاصطفافات والاهتمامات المتنافرة والمصالح الحيوية لسكان هذا الوطن المنكوب بكل أنواع الآفات القيمية والبشرية. نكتب لجيل آخر نستشرف فيه قيم وشيم اخرى غير معطوبة، جيل يقبض على آدميته بقوة ويتعاطى مع ما يحيط به بحساسية وذائقة تليق بما تختزنه فطرته من مواهب وملاكات وقيم. في هذا المقال سنتطرق الى مهنة ووظيفة مثقلة بسيرة ذاتية مغايرة لعنوانها الاصلي (الامن) وذلك لاسباب سياسية وتاريخية معروفة. باختصار شديد نقول ان هذه المهنة قد مسخت بشكل لا مثيل له مع انظمة القهر والعبودية والاذلال والذي مثلت “جمهورية الخوف” سنامه الاعلى، لكن ما الذي حصل معها بعد زوال النظام المباد؟
المتتبع لما جرى في هذا الحقل الحيوي (الامن) لن يحتاج الى جهد كبير، كي يكتشف حجم العشوائية واللامسؤولية في مهمة اعادة بناء اجهزته المختلفة، وهذا ما انعكس بقوة على محطاته اللاحقة. لقد تطرقنا في مقالات سابقة عن العيوب البنيوية لهذه الاجهزة وتنافرها ومنظومة القيم الديمقراطية والتي يفترض ان النظام الجديد وسدنته يدينون بها. اليوم سنسلط الضوء على جانب يبدو بطرانا لدى غالبية العاملين والمنخرطين بهذا الهم، الا وهو حساسية رجل الأمن، أي مدى قدرته على التعاطف والاهتمام بوجع من يستجيرون به وبنحو خاص من لا ظهير لهم، كما يحصل دائماً على تضاريس هذا البلد المنكوب بمعايير “اولاد الست وأولاد الجارية”. هذا الجانب المسكوت عنه في عمل ونشاطات هذه الاجهزة الاكثر اهمية في ظرفنا الراهن، هو ما يجب الالتفات اليه (رغم طبيعته البطرانة التي اشرت اليها) فمن دون التأسيس لمثل هذه الحساسية لدى اجهزة الامن وقبل ذلك لدى القضاء ومحاكمه ومؤسساته وملاكاتهما؛ لا امل بعراق جديد في نهاية نفق هذه المرحلة المسودنة من تاريخه الحديث.
كما أشرت ان مثل هذه الدعوة للالتفات الى حساسية رجل الامن تجاه مغزى مهنته في العهد “الديمقراطي” الميمون؛ ستبقى مهملة وبطرانة في ظل المناخات والاصطفافات والاهتمامات الراهنة للكتل والجماعات وسكراب الاحزاب المهيمنة على مقاليد أمور هذه المؤسسات الحيوية، لكنها ستبقى دائماً وأبداً معيارا ومؤشراً على وضع البلد ومدى قدرته على التعافي والنهوض من محنته المتواصلة منذ عقود، وما تهميش مثل هذه الهموم الا دليل قاطع على هوان هذه الجماعات وبعدها عما تدعيه ليلا ونهارا حول الاصلاح والتغيير والامن والاستقرار وغير ذلك من المانشيتات العريضة والبراقة. كل هذا لا ينفي وجود محاولات لاصلاح حال الاجهزة الامنية تنبعث هنا وهناك وبين آونة واخرى، لكنها تبقى ذات طابع فردي ومحدود لا تلبث أن تلتحق بسابقاتها من المحاولات الجزئية والعابرة. ان البدايات الجادة للتعاطي مع مثل هذه الملفات الحيوية ليست واهنة ومترددة وحسب بل ما زالت تقبع في قعر أولويات طبقة سياسية فقدت حساسيتها تجاه مثل هذه الهموم البطرانة منذ زمن بعيد…
جمال جصاني