التراجع إلى خط الدفاع الثاني.. من الشيوعية إلى العَلمانية

القسم الأول

صقر أبو فخر *

ما عاد كثير من اليساريين الجدد، وحتى القدامى القابضين على جمر اليسار، يحتملون قراءة تقارير المؤتمرات الحزبية، أو حتى بياناتها السياسية، بل يكتفي المرء عادة بإمرار البصر على الفقرات والعناوين الفرعية، وحسب المرء ما رأى، لا ما قرأ، مع أن الخبر ليس كالمشاهدة بالنظر. وفي هذا المناخ، يأتي الكتاب الذي أصدرته منظمة العمل الشيوعي في لبنان، والذي يحوي خلاصة الأفكار التي تمخض عنها المؤتمر العام الرابع للمنظمة (2018)، ليتخطّى الكساح التقليدي في بيانات المؤتمرات الحزبية التي كانت لا تكل عن تزيين «أمجادها» الكلامية بعباراتٍ مثل «لقد أثبتت الوقائع صحة موقفنا المبدئي»، أو «إن سمة العصر هي التحوّل الثوري من الرأسمالية إلى الاشتراكية»، أو «كنا أول من اكتشف أسباب ما يجري في منطقتنا». والكتاب، فوق ذلك، نصٌّ فكري وسياسي ونضالي، يثير مسائل سجالية شتى، ولا سيما موقع اليسار اليوم في لبنان، علاوة على الديمقراطية والعَلمانية والطائفية، وغير ذلك من المسائل التي يحتدم النقاش في شأنها، لا في لبنان وحده، بل في العالم العربي كله. لكن فصول ذلك الكتاب لا تُقتصر على الموضوعات الفكرية، بل تعالج الواقع اللبناني بتفصيلاته المملة والمهمة في آن، كاتفاقي الطائف والدوحة والإصلاح السياسي وحزب الله والاقتصاد اللبناني وقانون الإيجارات والأزمة السورية وقضية فلسطين.
غاية هذا الكتاب الموسوم بعنوان «من أجل حزب يساري علماني» (بيروت: منشورات بيروت المساء، 2018) هي «مراجعة الهوية الفكرية للمنظمة، وإطلاق مبادرة لتجديد اليسار اللبناني» (ص4). وفي هذا الميدان، جرى التخلي عن الشيوعية، مع الاحتفاظ بها في اسم المنظمة. ولعل مردّ ذلك إلى أن الاسم إرث تاريخي عمره نحو خمسين سنة. وقد أوكل المؤتمرون إلى المؤتمر الخامس المقبل مهمة التخلص من كلمة الشيوعية في الاسم. لكن، بين المؤتمرين، الأول (1971) والثاني (2001) مر ثلاثون عاماً. وبين المؤتمرين، الثالث (2013) والرابع (2018) تقلصت الفجوة الزمنية نسبياً، فكم سيطول الزمن حتى تعقد المنظمة مؤتمرها الخامس، ويحسم مَن بقي من أعضائها اسم المنظمة؟ لنتذكّر أن مشروع محسن ابراهيم للتخلي عن مرجعية الماركسية – اللينينية، واقتراحه تأسيس منظمة يسارية ديمقراطية جديدة يعود إلى عام 1990، أي ثلاثين سنة إلى الوراء (انظر: سليمان تقي الدين، اليسار اللبناني وتجربة الحرب، بيروت: دار الفارابي، 2013، ص 169). ولمحسن إبراهيم باع طويل في استبدال الأسماء والشعارات؛ ففي أحد اجتماعات «الشباب القومي العربي» في سنة 1958، عرض استبدال اسم «الشباب القومي العربي» باسم آخر هو «حركة القوميين العرب»، وهذا ما حصل. وفي سنة 1959 اقترح استبدال كلمة «ثأر» في شعار القوميين العرب «وحدة تحرّر ثأر» بأي كلمةٍ غيرها مثل «استعادة فلسطين». ومهما يكن الأمر، فإن عبارات محسن إبراهيم ووضاح شرارة وأحمد بيضون تطل من بين الصفحات، ثم لا تلبث أن تختفي مثل «الاستتباع» و»النصاب» و»السلم الأهلي البارد». لكن شبح محسن إبراهيم وأفكار صديقنا الراحل خالد غزال، وأصابع زهير هواري، وغيرهم بالتأكيد، جلية إلى حد كبير في هذا النص المهم. أما مقالتي هذه فهي تتجاوز الاهتمام الطبيعي بتقرير منظمة العمل الشيوعي، لتعانق القضايا الأرحب التي أثارها ذاك التقرير، كالعلمانية واليسار والديمقراطية وسورية والنازحين السوريين. ولعل المقالة تساهم في النقاش الدائر اليوم على قدر تحصيلنا المعرفي، وهو قليل في أي حال.

تحولات اليسار وانقلابات اليساريين
من مفارقات تاريخنا السياسي المعاصر أن اليسار العربي الجديد لم يظهر في مجرى تحولات اليسار الشيوعي القديم، إلا في حالاتٍ مخصوصة، بل خرج من رحم الحركات القومية العربية، وبالتحديد من صفوف حزب البعث وحركة القوميين العرب. وكان لانفصال سورية عن مصر في 28/9/1961 أثر كبير في صعود الجيل الجديد من القوميين، وتحولهم إلى اليسار، أمثال ياسين الحافظ وحمود الشوفي وعلي صالح السعدي وحمدي عبد المجيد في حزب البعث، ومحسن إبراهيم ومحمد كشلي ونايف حواتمة في حركة القوميين العرب، ففي حزب البعث طُرحت الماركسية في المؤتمر القومي السادس (1963)، وفي حركة القوميين العرب طُرحت الاشتراكية منذ 1965. وفي كلا الجانبين، بدأ الكلام حينذاك على تخليص الفكر القومي من رومانسيته، وراح محمد كشلي ينشر خلال أغسطس/ آب وسبتمبر/ أيلول 1966 سلسلة مقالات في مجلة الحرية، بعنوان «نقد التجربة الناصرية» و»نحو يسار عربي جديد». وكانت أفكار «البعث»، التقدمية في ذلك الزمن، مخرجاً للشبان العرب الحائرين بين ثنائية الشيوعية والإسلام، فهؤلاء كانوا يتطلعون إلى العدالة الاجتماعية، من غير أن يكونوا شيوعيين، ويرغبون في أن يمارسوا حياتهم علمانيين من دون أن يتخلوا عن إيمانهم، أو أن يرتبطوا بالإخوان المسلمين. ثم صارت الماركسية بعد انفكاك الوحدة، ولا سيما بعد هزيمة 1967، ملاذاً فكرياً بعدما تخلخلت ركائز الفكر القومي، بنسختيه البعثية والناصرية.
في خضم تلك التحولات، شهدنا الهجرة من البعث إلى الناصرية (عبد الله الريماوي وجمال الأتاسي وفؤاد الركابي)، والهجرة من البعث إلى الماركسية (ياسين الحافظ وحمود الشوفي وحمدي عبد المجيد وعلي صالح السعدي) الذين أسسوا «حزب العمال الثوري العربي» في سورية. وفي لبنان ظهرت حركة لبنان الاشتراكي من ظهر حزب البعث (وضاح شرارة وفواز طرابلسي وأحمد بيضون ومحمود سويد)، وولدت «منظمة الاشتراكيين اللبنانيين» من نسل القوميين العرب (محسن إبراهيم ومحمد كشلي وآخرون). وفي موازاة ذلك، وقبل ذلك وبعده، هاجر إسلاميون إلى الماركسية (حسين مروة)، وماركسيون إلى الإسلام (منير شفيق ومحمد عمارة وعادل حسين). وعادل حسين هو أفضل مثال لتلك التحولات الفكرية المتقلقلة؛ فقد بدأ حياته السياسية في حزب مصر الفتاة، القومي المتطرّف، ثم انتقل إلى الشيوعية بعد ثورة 23 يوليو 1952، وانضم إلى الحركة الديمقراطية للتحرّر الوطني (حدتو). ومع هبوب رياح العالم الثالث، تحول إلى الماوية، وصار من مفكري هذا التيار، إلى جانب سمير أمين وآخرين. وفي سنة 1986، انضم إلى حزب العمل الاشتراكي، بزعامة إبراهيم شكري «أستاذ التنجيم وقراءة الكف». وراح هذا الحزب يتحول، بالتدريج، إلى حزب إسلامي، بعد تحالفه مع «الإخوان المسلمين» في سنة 1987. في ذلك السياق المتدرج، وبالتحديد بين سنتي 1970 و1971، ظهرت منظمة العمل الشيوعي من اندماج البعثيين الماركسيين (حركة لبنان الاشتراكي) والقوميين العرب الماركسيين (منظمة الاشتراكيين اللبنانيين). وقد أطلقت سجالاتُ اليسار الجديد، طوال عقد السبعينيات من القرن المنصرم، حيوية فكرية، قلما شهدها لبنان من قبل، واتسمت «مرحلة نشأة اليسار الجديد بالتشدد اللفظي، والخلط بين المستوى الاستراتيجي والمستوي التكتيكي، وسيادة الجملة الثورية، ورفض التعاطي مع مؤسسات الواقع السياسي باسم النقاء الثوري، وطغيان السجال النظري على الصياغة السياسية البرنامجية، وتغليب التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي، واستمرار النزاعات الشللية والحلقية» (سليمان تقي الدين، اليسار اللبناني وتجربة الحرب، مصدر سابق، ص71). غير أن معظم تلك السجالات الصاخبة جاءت، في محصلتها النهائية، خراجاً بلا غلّة، وتبيّن أن سيوفها من خشب، ورماحها من قصب، فتكسّرت عند أول معركة، وتركت الميدان للجماعات الإسلامية. وبرهانُ ذلك انتقال عدد لا بأس به من مثقفي منظمة العمل الشيوعي إلى مؤسسات طوائفهم، والتحاق آخرين بأكثر الفئات الرأسمالية جشعاً ونهباً، أي رأسمالية المقاولات العقارية التي جسّدتها السياسات الاقتصادية للرئيس رفيق الحريري، وكانت الذريعة ضرورة التحالف معه، في سبيل السيادة والحرية والاستقلال والإعمار، تلك السياسة النيوليبرالية العالمثالثية التي ما برح الاقتصاد اللبناني يدفع ثمنها ديوناً. والمعروف أن شيوعيات متخلفة كثيرة ظهرت في بلاد العالم خارج الشيوعية السوفياتية، المتخلفة بدورها، كالشيوعيات الكورية والكمبودية والألبانية (أنور خوجة)، والشيوعية اليوغسلافية لصاحبها الجنرال جوزف بروز تيتو. وتلك الهرطقات الشيوعية، مثل الهرطقات الدينية، ظلت أقلوية خارج بلدانها الأصلية، وعاشت على هامش المؤسسة الشيوعية السوفياتية العريقة، وتعيّشت على مخاصمتها ونقدها الذي كان صحيحاً في معظم جوانبه. وعندما انهار الاتحاد السوفياتي، ودشّن انهياره عصر الأفول الشيوعي، اندثرت معظم الشظايا الشيوعية كما يندثر الفطر من بين أسنان التماسيح التي تتعيش عليها الطيور؛ فما إن يموت التمساح حتى تختفي الطيور، فتهاجر أو تموت. ومثال ذلك حزب العمل الاشتراكي العربي، الرديف الحزبي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والذي راح يلملم العناصر غير الفلسطينية من بقايا حركة القوميين، أمثال هاشم علي محسن. وكان ذلك الحزب، بقيادة حسين حمدان، أقرب إلى الماوية (حزب الشعب والفلاحين وحزب شيوعي عربي موحد… إلخ). لكن، مع الهجوم الصيني على فيتنام في سنة 1979، انهارت الجاذبية الماوية، وبدأ الحزب يتقرّب من الشيوعية السوفياتية، الأمر الذي جعله بلا فائدة بوجود الأحزاب الشيوعية التقليدية.

هل تجديد اليسار ممكن؟
يتساءل الكتاب: لماذا تعثّر السير بتجديد اليسار خلال العقود الثلاثة الماضية؟ وما هي الأسباب الموضوعية والذاتية لهذا التعثّر؟ (ص 23). ولعل عقابيل الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في سنة 1975 كانت من بين الأسباب الرئيسة لذلك التعثر، وهي كلمةٌ لطيفةٌ تحل في محل كلمة الفشل، فمجادلات اليسار بعد عام 1967 في شأن الثورة ورأسمالية الدولة وغيفارا وحرب الشعب والطبقات واليسار العالمي الجديد، وبيروقراطية الدولة السوفياتية والمقاومة الفلسطينية والتسوية مع إسرائيل، والتخلف الاقتصادي والثقافي والتنمية وصراع الدول التقدمية والدول الرجعية ودول النفط، وما إلى ذلك من أفكار ومفاهيم وعقائد وسياسات اندثرت كلها إلى حد كبير، مع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، وحل في محلها الكلام على الطوائف واليمين الانعزالي والتدخل الخارجي والاعتداءات الإسرائيلية والتسوية الداخلية اللبنانية، وإعادة صوغ النظام السياسي على أسس طائفية جديدة.
وترافق ذلك، خصوصاً مع انصرام سنة 1979، مع تحوّلات هائلة في الشرق الأوسط غيّرت وجه المنطقة جذرياً مثل الاجتياح السوفياتي لأفغانستان ونشوء «الجهادية الإسلامية» بصورتها الجديدة، وانتصار الثورة الإسلامية في إيران على حكم الشاه محمد رضا بهلوي، وتوقيع أنور السادات معاهدة السلام مع إسرائيل، وتحطيم مقولة الصراع العربي – الإسرائيلي بخروج مصر منها، واندلاع الحرب العراقية – الإيرانية (1980) وفشل الميثاق القومي السوري – العراقي. وجاءت تلك التحولات متزامنةً مع تغيّرات جوهرية على النطاق العالمي، مثل صعود المحافظين وسياساتهم النيوليبرالية التي عبر عنها فوز مارغريت تاتشر في بريطانيا، ورونالد ريغان في الولايات المتحدة الأميركية، ومناحيم بيغن في إسرائيل، وانكشاف تخلف الاتحاد السوفياتي في سباق التسلح. وأدى ذلك كله إلى تغيير النظام الدولي بالتدريج، وإلى تغيير سياسات التنمية حتى في دول العالم الثالث، ثم تبنّي الخصخصة. وبدأت فكرة احترام سيادة الدول بالأفول، ثم غمرنا الإعصار الدموي للجماعات الإسلامية التكفيرية الذي ما زالت أنيابها بارزة.
في معمعان تلك التحولات التي «شقلبت» العالم كله، كان اليسار اللبناني (والفلسطيني استطراداً) يقيم علاقاتٍ وثقى مع نظم استبدادية عربية، مثل نظام أحمد حسن البكر – صدام حسين، ويتلقى الأموال منه، ويسكت على جرائمه. والأمر نفسه ينطبق على أنظمة معمر القذافي في ليبيا وهواري بومدين في الجزائر وعلي ناصر محمد في اليمن الجنوبي. وكانت إبداعات اليسار العربي، على المستوى السياسي، ضحلة جداً، فاليسار المصري على سبيل المثال قصر نشاطه بين عامي 1967 و1973 على المطالبة بالحرب على إسرائيل لتحرير سيناء، وكانت الغاية إحراج أنور السادات، فلما شنّ الأخير الحرب في 1973، ضاع ذلك اليسار، وصار دائخاً لا يعرف ماذا يفعل، حتى أن إسماعيل صبري عبد الله، الشيوعي الذي سُجن طويلاً، اختاره السادات وزيراً للتخطيط في إحدى حكوماته. واليوم، فإن تراجع اليسار، مرغماً في معظم الأحوال، إلى خط الدفاع الثاني، أي إلى إعلاء شأن الديمقراطية والعَلمانية، جعله يتخلّى عن الاشتراكية أحياناً، ويتبنّى مقولات الديمقراطية بوجهها الليبرالي، مثل «المجتمع المدني» و»التعددية السياسية» و»التنوع الثقافي»…إلخ. وفي هذا الميدان، غيرت أحزاب شيوعية اسمها، كالحزب الشيوعي الفلسطيني الذي صار «حزب الشعب». وكذلك الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي الذي بات «حزب الشعب السوري» الذي لم يتورّع أمينه العام، رياض الترك، بعد سنوات طويلة من السجن، عن الدعوة إلى التحالف مع الإخوان المسلمين نكاية بالنظام السوري. واختفت مصطلحات شتّى، جرّاء التقادم وعدم الفائدة، مثل «الصراع الطبقي» و»ديكتاتورية البروليتاريا». وحتى الاشتراكية جرى استبدالها بـِ»العدالة الاجتماعية»، وشاع استخدام «المجتمع المدني» و»السلم الأهلي»، وما عاد العداء للإمبريالية ضرورياً ليساريين كثر. وكان لمنظمة العمل الشيوعي موقفٌ في هذا الشأن، فهي ترى أن التاريخ «لم يحكم للماركسية، كمشروع للتغيير الاجتماعي، بالنجاح، بل حكم عليه بالفشل. لذا لا محلّ اليوم لتقييد اشتراكيتنا بقيد الالتزام الكلي بالماركسية. ونقرّر أننا اشتراكيون لا نرى مبرّراً لاستمرارنا حاملين صفة الماركسية. والهوية الشيوعية التي نحمل لم تعد صالحة وجهاً للاشتراكية المتجدّدة التي نسعى إلى اشتقاق مفاهيمها (…)، ولا محل لانخراطنا في دائرة الاشتراكية الديمقراطية الممثلة بالدولية الاشتراكية» (ص 128-129).
أوقع غياب التخوم بين اليساري والليبرالي، اليسار في تشوّه الهوية. وهذا، على الراجح، من عوامل تعثر اليسار، فما الفارق بين الماركسي الذي يدافع عن الديمقراطية والحريات، ويقف في وجه القمع والدكتاتورية، والليبرالي؟ وما الفارق بين الديمقراطي الذي يناضل في سبيل المساواة وحقوق المرأة وضد العنصرية، واليساري الذي يتخذ المواقف نفسها؟ الحقيقة أنْ لا فارق جوهرياً بينهما. الفارق الجوهري هو الرؤية الاجتماعية؛ فاليساري هو مَن يحمل مشروعاً للتغيير يتضمن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة والحريات والعَلمانية ومعاداة الإمبريالية والصهيونية. و»نصف يساري» أو «نصف عَلماني» لا يستقيمان في هذا الشأن، كأن يكون أحد مع الديمقراطية والحريات وضد العسف والاستبداد، لكنه يدعو إلى التخلص من عبء القضية الفلسطينية وإلى التصالح مع إسرائيل، حتى قبل أن ينال الفلسطينيون بعض حقوقهم التاريخية. وأبعد من ذلك، فإن تعثر اليسار العربي، خصوصاً اللبناني، راجع اجتماعياً وتاريخياً إلى عدم نشوء طبقة عاملة حقيقية في هذا البلد، فهل يمكن أن يظهر يسار ثوري مقتدر في دولٍ لا طبقة عاملة مسيسة فيها؟ «الطبقة العاملة» في لبنان مؤلفة من عمال مهاجرين وموسميين: سوريين ومصريين وسودانيين وبنغال وهنود وسريلانكيين وفيليبينيين، وهؤلاء لا يتكلمون بلسان واحد. إنهم عمالة مهاجرة وموقتة، وذات طابع خدمي. هناك أيدٍ عاملة لا «طبقة عاملة». ومن المحال أن تتطوّر الأيدي العاملة إلى «طبقة»، بالمعنى التاريخي والاجتماعي، في بلد عمّاله ليسوا من أبنائه، لأن مفهوم «الطبقة» مصطلح دلالي يشير إلى نسق اجتماعي – اقتصادي ذي سمات تاريخية. وينشأ هذا النسق بالتراكم التدريجي، من خلال اتساق أنماط الإنتاج ووسائل الإنتاج والفئات الاجتماعية المطابقة، علاوة على القوانين الموازية لهذا النسق، وذلك كله في إطار الدولة الثابتة والاقتصاد المتحرّك (راجع: صقر أبو فخر، هل اليسار ممكن في العالم العربي اليوم؟، مجلة الآداب، الأعداد 7 و 8 و9، تموز/ يوليو – أيلول/ سبتمبر 2011). ولعل «الطبقة العاملة» موجودة اليوم، لا في لبنان أو دول الخليج العربي، بل في الصين وروسيا. وحتى مصر التي عرفت الصناعة الحديثة قبل مئتي عام، كان فيها مليونان وسبعمئة ألف خادم منزلي (عامل منزلي) في سنة 1947، وهذا العدد هو ضعف عدد العمال في المدن الصناعية.

الديمقراطية المخصية
في خضم الحروب المستعرة في العالم العربي كله، استخلص كثيرون من اليساريين التائبين أن الحل، في نهاية المطاف، هو الديمقراطية ولا شيء غيرها؛ فلا الخلافة الإسلامية يمكنها أن تنتصر، ولا دولة الاستبداد تستطيع الاستمرار، وحتى الدول شبه الديمقراطية وشبه الليبرالية، مثل مصر وسورية والعراق بُعيد نكبة فلسطين، لم تتمكّن من إنجاز الاندماج الاجتماعي والوطني في نطاق الدولة الحديثة، المؤسسة على المواطنة والمساوة والديمقراطية. ولكن لا أحد اليوم قدّم إجابة شافية عن تلك الديمقراطية الموعودة، بل إن ما بين أيدينا في هذا الحقل مجرّد مطارحاتٍ فكرية في الديمقراطية، وليس مشروعاً سياسياً للمستقبل، فالشائع في أفهام كثيرين أن الديمقراطية تعني، أولاً وأخيراً، حكم الأغلبية، وهو ما يُترجم في الواقع إلى حكم السُنة في سورية، وإلى حكم الشيعة في العراق، وإلى حكم المسلمين، جرّاء الغلبة العددية، في لبنان، فالأغلبية لدى هؤلاء هي الأغلبية الطائفية، لا الأغلبية السياسية كما الحال في الديمقراطية حقاً. والديمقراطية، في عُرفنا، رديفٌ لازم وشَرطي للعلمانية؛ فلا علمانية من غير ديمقراطية، لأن العلمانية من غير ديمقراطية تأتي بالطراز التركي الاستبدادي. والديمقراطية من دون عَلمانية تأتي بنموذج باكستان أو بنغلادش. هنا، في هذا المجال تقول رؤية منظمة العمل الشيوعي إن «النظام اللبناني (…) ليس نظاماً ديمقراطياً» (ص 8)، وغير قابل للإصلاح، وهو نظام رعايةٍ لحرب أهليةٍ مستدامة (ص 16).
يكاد هذا الوصف الصحيح يطابق ما كتبه ياسين الحافظ قبل نحو 45 سنة: «الحديث عن ديمقراطية لبنانية ينطوي على تلفيق» (أنظر: ياسين الحافظ: في المسألة القومية الديقمراطية، بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 1981). وبحسبه أيضاً، «الديمقراطية اللبنانية ديمقراطية مخصية، والطائفية هي الخاصي» (المرجع السابق، ص127)، لأن الطوائف في لبنان ليست جماعات مؤمنين، بل أشباه أمم. والمعروف أن ثمة فارقاً بين مجتمع Society وجماعة Community. ولبنان لم يتطور كفاية ليصبح مجتمعاً له هوية مشتركة حاسمة، بل بقي مجرّد نطاق جغرافي، تعيش فيه جماعات تراحمية ذات عصبيات طائفية، وهذه هي هويتها الأساس. واللبنانيون يتكلمون كثيراً عن الديمقراطية، لكن كل زعيم في طائفته دكتاتور. ومجموع الدكتاتوريين أقاموا في ما بينهم نظاماً يضمن بعض الحريات لكل دكتاتور ولجماعته، فلبنان، بهذه الصفة، مكان للحريات وللدكتاتوريين الأحرار في الوقت نفسه. صحيحٌ أن الطوائف موجودة منذ زمن بعيد، ولم تنشأ مع ظهور الدول الحديثة في المشرق العربي، أي بعد تطبيقات سايكس – بيكو (1916) ومؤتمر سان ريمو (1920)، لكن تحول الطائفة إلى كياناتٍ سياسيةٍ (الطائفية السياسية) هو نتاج مرحلة الاستعمار والحماية، وتحويل نظام الملل العثماني إلى نظام سياسي. وزعماء لبنان، خصوصاً الموارنة في مرحلة ما قبل الطائف، والشيعة والسنة اليوم لا تهمهم الديمقراطية والعَلمانية، بل الإبقاء على امتيازاتهم في الدولة التي يتمسّكون بها، ويريدون الاستمرار في حكمها، ونيل حصصهم منها. وفي أي حال، فإن الديمقراطية وحدها لا تكفي. جاءت بهتلر وموسوليني وفرانكو، ويمكن تسخيرها دائماً لمصلحة الحاكم من طراز رجب طيب أردوغان أو مهاتير محمد. الديمقراطية المقترنة بالعَلمانية في سياق التزام العدالة الاجتماعية والعدالة الكونية هي ما يمكن النضال في سبيله، أَكان ذلك في لبنان أو في سائر المشرق العربي المحيط بلبنان.

  • كاتب عربي مقيم في بيروت

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة