بفعل التحولات والثورات العلمية والقيمية الهائلة التي شهدتها البشرية في العقود الاخيرة، انتقلت غالبية البلدان والشعوب والامم الى ما يعرف بنادي الامم الحرة. حيث النظم السياسية والتشريعات والمؤسسات التي تحمي وتنتصر لشرعة الاعلان العالمي لحقوق الانسان، والذي تم تدوينه واقراره من قبل الاسرة الدولية بعد الكوارث والانتهاكات الهائلة التي ارتكبت في الحرب العالمية الثانية (1939-1945). ماراثون الانتقال صوب المعنى الجديد لهذا العصر (عصر الحريات الواسعة ودول المؤسسات الحديثة) تخلفت عنه قائمة محدودة من المجتمعات والبلدان تصدرتها مضاربنا المنحوسة، وعندما نحاول اكتشاف علل كل ذلك النحس، سنجد حزمة من الاسباب والعوامل منها العديد مما عرفته المجتمعات والبلدان الاخرى، غير انها تمكنت من الانتقال الى ما يشغل عصرها من هموم وتحديات، بفعل همتها وقدرتها على تقويض كل ما يمت بصلة لممالك الخوف والرعب وادواته ومدوناته التي تنتزع من الانسان قدراته على الخلق والابداع. عندما نتعرف على منسوب وباء الخوف وسطوته الهائلة في مجتمعاتنا (افرادا وجماعات) سندرك العلل الفعلية لكل ما نتخبط وسطه من ركود وعجز وتعفن وهزائم خالدة.
وعراق ما بعد “التغيير” خير مثال على ما تطرقنا اليه، عندما فشل سكانه من مواجهة فلول هذا الوباء “جمهورية الخوف” والتي استأصلها لهم المشرط الخارجي من دون منة لـ (مجاهدين أو مناضلين) حيث اعادت الواجهات الجديدة من الفلول والطبقة السياسية التي تلقفت أسلاب الغنيمة الأزلية؛ انتاج دورات وفصول جديدة ومبتكرة من الرعب والخوف، شملت كل ما تحتضنه خارطة التضاريس الممتدة من الفاو لزاخو، صولات تتناغم وما تختزنه ترساناتهم العقائدية من اسلاب الرسالة الخالدة وما يحف بها من هلوسات. أكثر من 16 عاماً من الفشل في التأسيس لهيبة دولة العدالة الانتقالية المنشودة، حيث عرضوا للعالم كله احدى أسوأ التجارب السياسية والقيمية في التاريخ الحديث، ويشرعون لك من دون أدنى وجع من عقل أو ضمير قوانين تعاقب من يتجرأ على “الرموز الوطنية” أي رموز هذه الحقبة البائسة من تاريخنا الحديث. زمن النظام المباد شهدت البلاد حملات منظمة وممنهجة لصناعة “العراقي المذعور” عبر تحويل ذلك الكائن الخرافي الذي انتشل مذعوراً من جحره الاخير؛ الى طاغية لا حدود لصلاحياته وسطوته على تفاصيل حياة الافراد والجماعات في هذا الوطن المنكوب. واليوم نجد ذلك الارث المشؤوم يتم تقاسمه بين حيتان المشهد الراهن، الذين ادركوا قيمة ذلك الارث في تمدد واستقرار سلطاتهم.
بلد لا يصول ويجول فيه القتلة وحسب بل يتاح لغير القليل منهم لشغل مواقع أسلافهم في مهنة الاجرام المنظم وفقاً لذات الذرائع العقائدية والتعبوية التي عفا عليها الزمن. مثل هذا البلد لا ينتظر منه اية التفاتة صوب هموم التنمية والاستقرار واعادة البناء، من دون وضع القتلة والمسكونين بمهنة الاجرام المنظم، في الاماكن المخصصة لهم خلف القضبان أو أبعد من ذلك، لا يمكن الحديث لا عما يردده ويجتره ممثلي هذه الطبقة السياسية من شعارات ومانشيتات عريضة حول الاصلاح والبناء وحسب، بل عن وجود دولة وقانون أصلاً. الجريمة لا تفكك ولا مكان للتمييز بين الضحايا والجناة فيها على اساس السلالات والمعتقدات والذرائع والمستويات الاجتماعية والسياسية وغير ذلك من فضلات العصور الغابرة. الجريمة واستشراء العنف ومن ثم الافلات المستمر من العقاب، يعني بقاء هذا الوطن القديم وشعوبه من شتى الرطانات والهلوسات والازياء بلا حول ولا قوة، وحيث لا يرث المذعورون الأرض أبدا..
جمال جصاني