من خلال متابعة ما يجري في اقليم كوردستان من تطورات واصطفافات واحداث تبدو متنافرة احياناً، يمكن التعرف على الدور الذي تلعبه الديمقراطية ومدى نفوذها كممارسة وثقافة، في التأثير على مسارها ونوع المنحى الذي تنجرف اليه عند مفترق الطرق. بالرغم من مرور أكثر من ربع قرن على هذه التجربة (منذ العام 1991) ومنها 16 عاماً على زوال النظام المباد، حيث شهدت التجربة اجراء عدة دورات انتخابية وحزمة من النشاطات والتحولات والفرص الكبيرة لترسيخ منظومة الحياة الديمقراطية على هذه التضاريس، الا ان المعطيات والتطورات تتحدث عن غير ذلك تماماً، وهذا ما يمكن تلمسه لا في المؤسسات الرسمية وحسب بل في الحياة الداخلية للاحزاب والكتل السياسية المتنفذة، والتي ما زالت تعيش اجواء ومناخات العمل السري. كما يمكن التعرف على ذلك الخلل البنيوي في اهم الاحداث التي شهدها الاقليم مؤخراً، بدءا من اجراء الاستفتاء على استقلال الاقليم وما تمخضت عنه من عواقب وآثار، انعكست سلبا على حياة سكانه وتطلعاتهم المشروعة، الى ما يحصل اليوم من تشرذم في المواقف بين الكتلتين المتنفذتين (البارتي واليكيتي) والتي تهدد الاوضاع فيها بالعودة الى صيغة (الادارتين في اربيل والسليمانية) وهي تطورات تكشف عن وجه آخر لما تعيشه تجربة اقليم، مغاير تماماً لما تضخه وسائل الاعلام التابعة للقوى المهيمنة فيه.
لا يتناطح كبشان على ان ما تحتاجه هذه التجربة الفتية، بعيد كل البعد عما يشغل بال القوى التقليدية التي تلقفت مقاليد الامور في الاقليم بفضل المشرط الخارجي الذي حجم سطوة النظام المباد ومن ثم أجهز عليه؛ الا وهو الحاجة الى الديمقراطية والحريات والمزيد من الحريات، لا التضييق والاستئثار كما تشير اليه منحى التطورات والاحداث التي تشهدها تلك التضاريس. ان تسخير ما توفر للاقليم من امكانات وفرص وثروات اسطورية، لصالح تكريس هيمنة اسر وسلالات بعينها وما يدور في افلاكهم من حاشية وحبربش حزبي وسياسي، لا يمت للديمقراطية بصلة، فهذه المنحة الاممية (الديمقراطية) لا وجود لها من دون التغيير والتغيير المستمر للقيادات والزعامات، ولنا في حال تشرشل (بطل الحرب العالمية الثانية) اسوة حسنة، عندما طلبت منه الصناديق أن يفسح المجال لزعامات وفريق عمل آخر تحتاجه بريطانيا ما بعد الحرب.
ان الاصرار على اقتفاء اثر التجربة اللبنانية (التوريث السياسي) لن يفضي لغير ما انحدرت اليه هذه التجربة من مازق تاريخي وانسداد للآفاق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. كما ان ظهور قيادات تاريخية لا يستدعي التوريث وما يرافقه من مناخات وشروط للركود والتعفن وبالتالي التفريط بتطلعات الشعوب المشروعة. وتاريخ التجارب التحررية للشعوب والامم زاخرة بالامثلة والشخصيات اللامعة التي نأت بنفسها عن مثل تلك التقاليد البالية، وعلى سبيل المثال لا الحصر (المهاتما غاندي ونيلسون مانديلا وتشرشل نفسه…). الديمقراطية من دون التغيير والديناميكية في التعاطي مع الحاجات والتحولات المضطردة للحياة في شتى حقولها المادية والقيمية، تصبح شاحبة وعاجزة عن اداء ما وجدت من اجله من وظائف حيوية. وتجربة الاقليم بكل تفاصيلها واحداثها المتلاحقة تؤكد ذلك، وتدعو بقوة الى الالتفات لهذا التحدي الاساس والذي تحاول القوى التقليدية تهميشه واغراقه وسط سيل واسع من الهموم والنزاعات والحروب المفتعلة…
جمال جصاني