“أوراق عتيقة” عن اليسار العراقي
الحلقة 22
تنشر “الصباح الجديد” وثيقة مهمة ولها جاذبية تأريخية خاصة بالنسبة لنا نحن العراقيين الا وهي شهادة القائد البعثي البارز عبد الستار الدوري عن تشكيل وعمل منظمة “الكادحون العرب” التي خرجت من تحت عباءة البعثيين وانشقت عنهم في ظروف مصيرية سترد تفاصيلها في الحلقات اللاحقة.
وكانت سنوات الستينيات، ولا سيما منتصفها، قد شهدت تحولات كبرى في حراك القوى اليسارية العراقية ابتداء بالبعثيين الذين خرجت منهم هذه الحركة وكذلك المنظمة العمالية الثورية ومروراً بحركة القوميين العرب التي شهدت جملة من التشققات افرزت منظمات عدة وخاصة على الساحة اللبنانية وفيما بعد الساحة الفلسطينية. وانتهاء بالحزب الشيوعي العراقي الذي نشأت من رحمه ” القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي”.
ولعلنا لا نبتعد كثيراً بالإستنتاج عن جميع الكتل المنشقة وغيرها كانت على يسار التنظيم الام الذي خرجت منه. وهي كانت ترى نفسها ثمرة مرحلة الثورة الماركسية اللينينية واليسار الاوروبي المتأثر بهذه الدرجة او تلك بحركة اليسار الجديد وثورة عام 1968 الاوروبية.
والملاحظة الثانية عن كفاح النخب النضالية ذلك الوقت ان ضوءاً بسيطاً قد سلط عليها ولم تحض بالتحليل والدراسة في ما عدا تجربة القيادة المركزية. ويعود ذلك الى اختفاء مؤسسيها او اندماجهم مع تنظيمات كبيرة تولت القيادة نهاية الستينيات وما بعدها.
وتعد شهادة الاستاذ عبد الستار الدوري من اندر الوثائق والنصوص حول حركة الكادحون العرب لذا فنحن مقتنعين في صحيفتنا بأهميتها للقارئ الكريم علما اننا اتصلنا ببعض نشطاء تلك المرحلة الذين ما يزالون احياء فلم نصل الى التجاوب او الحماسة العملية، برغم توفر حماسة لفظية كبيرة. ونتمنى أن يكون نشر هذه الشهادة اليوم سبباً لتشجيع بقية المناضلين على الإدلاء بدلوهم في هذا السياق خدمة لذاكرة العراقيين ووفاء لمناضلي الشعب.
وسيكون موضع سرورنا ان نتلقى ردود القارئ الكريم او شهاداته ليتم اكتمال المشهد.
عبد الستار الدوري
في 28 نيسان عام 1965 تدخلت الولايات المتحدة عسكرياً في جمهورية ((الدونيكان)) على أثر قيام حركة ثورية هناك . و في الاول من شهر حزيران عام 1966 نقلت السفن و الطائرات العسكرية الاميركية (1700) من مشاة الاسطول البحري الاميركي و (2500) من الجنود المشاة إلى الدومنيكان . و في يوم 24 كانون الأول من العام 1966 قامت القوات الاميركية بقتل (125) مدنياً في فيتنام رغم وقف القتال لمدة (48) ساعة بمناسبة أعياد الميلاد . و في العام 1968 دبرت المخابرات المركزية إنقلاباً عسكرياً يقوده الجنرال (سوهارتو) ضد رئيس اندونيسيا (احمد سوكارنو) الذي قاد البلاد نحو التحرر من اليابانيين و من ثم الهولنديين ، و قد تبع هذا الإنقلاب حملات إعدام راح ضحيتها مليون شخص ، و في يوم 6 نيسان من العام 1968 قامت المخابرات المركزية الاميركية بقتل الثائر (مارتن لوثر كنك) المناضل من اجل الحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة .. و في العام 1969 قام (المستر كوبي) رئيس جهاز المخابرات المركزية في فيتنام بتنفيذ سياسة التصفيات الجسدية ، و قد مارس بنفسه قتل (1800) شخص و بلغ مجموع ضحايا تلك الحملة (100) الف ضحية فيتنامية . و في يوم 11 ايلول عام 1973 قامت المخابرات المركزية الاميركية بتنفيذ غنقلاب عسكري ضد الرئيس التشيلي (سيلفادور الليندي) و كانت نتيجة الإنقلاب مقتل الرئيس المنتخب و إعدام (30) الف و إعتقال (100) الف مواطن . و في 8 أيلول كشف (وليام كولبي) مدير وكالة المخابرات المركزية الاميركية عن الدور الذي لعبته هذه الوكالة للتخلص من الرئيس الليندي ، و ذكر أن حكومته أنفقت أكثر من (8) ملايين دولار على النشاطات المناوئة للرئيس التشيلي المنتخب . و في منتصف العام 1975 وضع الكونكرس الاميركي خطة لإحتلال آبار البترول في منطقة الخليج . و في اليوم الثاني من تشرين الاول عام 1978 إعترف الرئيس الاميركي و لاول مرة بإستخدام الولايات المتحدة للاقمار الصناعية في التجسس على الإتحاد السوفياتي و المنظومة الإشتراكية . و خلال عام 1978 قامت وكالة المخابرات المركزية بقتل (911) شخصاً من جمهورية (غويانا) و إدعت الوكالة بأن ذلك كان حادث إنتحار جماعي .
في شهر تشرين الأول من العام1979 قتلت الوكالة (باك جون في) رئيس جمهورية كوريا الجنوبية . و في يوم 30 آذار إغتال رجال المخابرات الاميركية (المونسيور روميرو) رئيس أساقفة جمهورية (السلفادور) . و في يوم 25 آذار من العام 1984 قامت القوات الاميركية بهجوم على جزيرة (كيرنادا) في الكاريبي و إحتلت الجزيرة عسكرياً . و في يوم 28 آذار عام 1986 وآفق مجلس الشيوخ الاميركي على تقديم (100) مليون دولار لمساعدة المتمردين في (نيكاراغوا) . و في يوم 3 تموز عام 1988 أسقطت وحدات الاسطول الاميركي في الخليج العربي طائرة ركاب مدنية إيرانية لقي ركابها ال(298) مصرعهم في البحر . و في يوم 28 كانون الأول من العام 1989 قامت القوات الاميركية بغزو (بنما) و إعتقال رئيسها الجنرال (مانويل نوريجا) و في حرب الخليج الثانية دمرت القوات الاميركية في العراق أكثر من (8437) داراً سكنية و (157) جسراً و (140) محطة كهرباء و (249) داراً لرياض الاطفال و (139) داراً للرعاية الإجتماعية و (100) مستشفى و مركز صحي و (708) مدرسة إبتدائية ،كما قامت الطائرات الاميركية بقصف ملجأ العامرية مما أدى إلى قتل العشرات من الشيوخ و النساء و الاطفال . و في يوم 9 نيسان عام 2003 تدخلت الولايات المتحدة و بقوة السلاح العسكري بإحتلال جمهورية العراق و ساعدت على إشعال فتنة الحرب الأهلية و إلى تشجيع التصفيات الجسدية و إلى جانب تدمير الجسور و المصانع و المعسكرات و المدن و إنهارت معه كل مقومات الدولة و سادت بعده سلطة العصابات و المليشيات الإجرامية و الطائفية ، و ذهبت الملايين من البشر ضحايا الإرهاب و تصفية الحسابات ، وراح أكثر من مليون لاجئ إلى دول الجوار و بقي البلد غارقاً في الامراض و التخلف و البطالة مع غياب الماء و الكهرباء و الامن .
هذه المحطات الإجرامية التي مر بها القطار الاميركي التآمري لم تعد سراً خافياً عن الرأي العام العالي إذ أصبح من المستطاع للمهتمين بهذا الامر الرجوع إلى صفحات الإرشيف العسكري الاميركي المحفوظ في وزارة الدفاع (البنتاغون) لكي يطلعو بالتفاصيل عن تلك الاحداث و الوقائع التي تورطت بها الإدارات الاميركية و لم تخجل من الإعتراف بها رسمياً على مر السنين في إرتكاب جرائم الحرب ضد العديد من الشعوب و القادة الوطنيين في العالم . كما أن العديد من الاشخاص الذين عملوا في وكالة المخابرات المركزية الاميركية قد دونوا نشاطاتهم الإجرامية على صفحات مذكراتهم الشخصية و إعترفوا علناً بمدى تدخل هذه الوكالة الرسمية الاميركية في شؤون العالم و في العمل التخريبي و الإجرامي الذي قامت به . و على مساحه كلا الحالتين السابقتين ، حالة تلك الوثائق العسكرية الاميركية الرسمية و حالة تلك المذكرات و الكتابات و المقابلات الشخصية للعديد من رجال المخابرات المركزية ، لم تظهر أبداً ملامح القطار الاميركي لعلي صالح السعدي ، ولم يأت ذكره لا من قريب و لا من بعيد . فهل أصبحت المخابرات المركزية و الارشيف الرسمي للبنتاغون حريصان على التستر و الكتمان على قطار علي السعدي الاميركي ؟ و تشعران بالخوف و الخجل من كشف علاقات الولايات المتحدة الاميركية السرية مع حزب البعث و مع شخص علي السعدي ؟ في الوقت الذي لا يزال هذان الموقفان يعترفان علناً بالقيام بتلك العمليات ((القذرة)) في ارجاء العالم . و لئن كان من غير المعقول و غير المفهوم أن تبقى وكالة المخابرات المركزية الاميركية ، و على إمتداد أكثر من خمسة عقود ملتزمة مع نفسها و عملائها و كذا مع الآخرين على الصمت المطبق حول حكاية القطار الاميركي لصاحبه علي صالح السعدي ، فمن العجب العجاب و الإستغراب المدهش أن يبقى جهاز المخابرات السوفييتي (كي جي بي ) كما يتندر العراقيون (نايم و رجله بالشمس) ، و على إمتداد الحقبة نفسها غارقاً هو الآخر و حتى العظم في غياهب الصمت الرهيب حيال حكاية الرفاق الشيوعيين بالنسبة لقطار علي السعدي الذي وصل بوابة وزارة الدفاع نهار 8 شباط . لا بل ان جهاز المخابرات السوفيتية أيام حكم الزعيم ، كان مزدحماً و متحشداً بجموع الرفاق العراقيين المتحمسين و المتطوعين تباهياً و إفتخاراً ضمن العمل الإستخباري السري فيه ، و ذلك إنطلاقاً من إمانهم العقائدي و الاممي المشترك و المشرف الداعي إلى اهمية و ضرورة الدفاع عن النظام الإشتراكي للإتحاد السوفياتي بإعتباره الحليف القوي و الصديق الصدوق لشعبنا العراقي و ثورته و زعيمه . و إلى جانب هذا الحشد الإستخباري السري في جهاز المخابرات السوفييتية كانت هناك مجاميع اخرى رسمية و علنية تنشط هي في هذا الإتجاه و موزعة على دوائر الملحقيات العسكرية و الصحفية و العمالية في السفارة السوفييتية ببغداد . و هنا و في خضم مشاعر الحيرة و الإستغراب و غياب روح المعقولية خلال هذا الواقع الغريب يبرز السؤال التاريخي الكبير و هو : اين كانت مسامع و أبصار و أجهزة هذه المجموعات الإستخبارية الناشطة و الواسعة و المنضوية تحت عباءة المخابرات السوفييتية العامة المنتشرة في عموم العراق و بالخصوص في المعسكرات و المطارات و الوحدات العسكرية ؟ و أين كانت تلك العيون الساهرة حين كانت تجري و على قدمٍ و ساق أيامذاك تلك الإستعدادات و الإتصالات الحزبية البعثية بغية إنطلاقة عجلات ذلك القطار الاميركي بقيادة علي صالح السعدي؟