“أوراق عتيقة” عن اليسار العراقي
تنشر “الصباح الجديد” وثيقة مهمة ولها جاذبية تأريخية خاصة بالنسبة لنا نحن العراقيين الا وهي شهادة القائد البعثي البارز عبد الستار الدوري عن تشكيل وعمل منظمة “الكادحون العرب” التي خرجت من تحت عباءة البعثيين وانشقت عنهم في ظروف مصيرية سترد تفاصيلها في الحلقات اللاحقة.
وكانت سنوات الستينيات، ولا سيما منتصفها، قد شهدت تحولات كبرى في حراك القوى اليسارية العراقية ابتداء بالبعثيين الذين خرجت منهم هذه الحركة وكذلك المنظمة العمالية الثورية ومروراً بحركة القوميين العرب التي شهدت جملة من التشققات افرزت منظمات عدة وخاصة على الساحة اللبنانية وفيما بعد الساحة الفلسطينية. وانتهاء بالحزب الشيوعي العراقي الذي نشأت من رحمه ” القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي”.
ولعلنا لا نبتعد كثيراً بالإستنتاج عن جميع الكتل المنشقة وغيرها كانت على يسار التنظيم الام الذي خرجت منه. وهي كانت ترى نفسها ثمرة مرحلة الثورة الماركسية اللينينية واليسار الاوروبي المتأثر بهذه الدرجة او تلك بحركة اليسار الجديد وثورة عام 1968 الاوروبية.
والملاحظة الثانية عن كفاح النخب النضالية ذلك الوقت ان ضوءاً بسيطاً قد سلط عليها ولم تحض بالتحليل والدراسة في ما عدا تجربة القيادة المركزية. ويعود ذلك الى اختفاء مؤسسيها او اندماجهم مع تنظيمات كبيرة تولت القيادة نهاية الستينيات وما بعدها.
وتعد شهادة الاستاذ عبد الستار الدوري من اندر الوثائق والنصوص حول حركة الكادحون العرب لذا فنحن مقتنعين في صحيفتنا بأهميتها للقارئ الكريم علما اننا اتصلنا ببعض نشطاء تلك المرحلة الذين ما يزالون احياء فلم نصل الى التجاوب او الحماسة العملية، برغم توفر حماسة لفظية كبيرة. ونتمنى أن يكون نشر هذه الشهادة اليوم سبباً لتشجيع بقية المناضلين على الإدلاء بدلوهم في هذا السياق خدمة لذاكرة العراقيين ووفاء لمناضلي الشعب.
وسيكون موضع سرورنا ان نتلقى ردود القارئ الكريم او شهاداته ليتم اكتمال المشهد.
الحلقة 15
عبد الستار الدوري
نجحت مساعي الرفيق ميشيل عفلق ، و إنعقد المؤتمر القومي السابع و حضره عن القطر العراقي الرفيق دام حسين و صدرت عن المؤتمر إضافة إلى إنتخاب قيادة قومية جديدة ، قرار بتشكيل لجنة حزبية تحقيقية تتولى إستجواب الرفاق علي السعدي و حمدي عبد المجيد و هاني الفكيكي و محسن الشيخ راضي و التحقيق الحزبي معهم …!
و لأن الرفاق المذكورين لم يستجيبوا لطلب اللجنة التحقيقية و رفضوا المثول أمامها ، فما كان من القيادة القومية الجديدة ، إلا أن تصدر قراراً بفصلهم من صفوف الحزب! و على أثر ذلك غادر الرفيقان علي السعدي و حمدي عبد المجيد الاراضي السورية بإتجاه العودة إلى يوغسلافيا!! و بمبادرة من الرفيق ياسين الحافظ و في دمشق تم عقد مؤتمر قومي لتلك المجموعة من الرفاق البعثيين غير المشاركين في أعمال المؤتمر القومي السابع و المناهضين و المعادين له .
و كان من أبرزهم الرفاق رياض رعد و طارق أبو الحسن و محسن الشيخ راضي و هاني الفكيكي و أبو طالب الهاشمي و غيرهم مع بعض الرفاق من المنظمات الحزبية في لندن و يوغسلافيا و الأردن و المغرب و غيرهم و تم فيه بعد ثلاثة أيام من النقاش إنتخاب قيادة قومية تضم الرفاق علي صالح السعدي و ياسين الحافظ و حمدي عبد المجيد و محسن الشيخ راضي و هاني الفكيكي و طارق أبو الحسن و رياض رعد .
و أن يكون مقر هذه القيادة في مدينة بيروت . ثم دارت نقاشات أخرى حول ضرورة تغيير إسم الحزب . فجرى تنظيم إستمارات توزع على عموم فروع الحزب للوقوف على وجهات نظرها حول هذه القطيعة الحزبية المهمة .
و كانت النتيجة أن حوالي 80% من الذين ساهموا في إعطاء آرائهم في الإستمارات كانوا مع ضرورة تغيير إسم الحزب ، مع تجاوز الطروحات الفكرية والسياسية التقليدية الثابيتة لحزب البعث العربي الإشتراكي ، و لذلك أصدرت القيادة القطرية لمجموعة (السعدي – ياسين الحافظ) قراراً بإعتماد إسم ((حزب البعث العربي الإشتراكي – اليساري)) و لم يكن هذا القرار و هذا التغيير ، مستحباً لطموحات و توجهات رفيقنا علي السعدي الثورية المتطرفة – لأنه لم يكن أيامذاك – يطيق أن يسمع لفظة (البعث)!! .
و في العام 1966 و بحضور الرفيقان علي السعدي و حمدي عبد المجيد ، إنعقد في بيروت مؤتمراً قومياً لحزب البعث العربي الإشتراكي اليساري ، و على مدى يومين من الحوارات و النقاشات الحزبية طرح الرفيق السعدي فيها إقتراحاً يدعو إلى ضرورة التخلص من سمة البعث من واجهة الحزب الثوري اليساري ، وإقترح لذلك ان يكون الإسم الجديد هو ((الحزب الديمقراطي العربي الإشتراكي)) غير ان هذا الإقتراح فشل و تلاشى أمام إقتراح الرفيق ياسين الحافظ الداعي إلى أن يكون إسم الحزب الجديد هو ((حزب العمال العربي الثوري)) و هو ما حصل بالفعل و نال موافقة غالبية الرفاق! .
و لغرض إستيعاب كل هذا المد الحماسي و معطياته الإشتراكية التي خلفتها ولادة حزب العمال الثوري ، في نفس ووجدان صاحبنا علي صالح السعدي ، فقد بُذلت جهود سياسية و آيديولوجية ثورية منه و من رفاقه الثوريين بهدف التنظير الفلسفي و العلمي لظاهرة التنقل الإستعراضي الإنفعالي من حزب البعث العربي الإشتراكي إلى حزب العمال العربي الثوري ، مروراً بحزب البعث العربي اليساري ، و لم يكن ، الخوض في هذا المعترك الآيديولوجي و السياسي سهلاً و معبداً بالورود و الفوز لدى علي السعدي و رفاقه و إنما كانت راية النصر في هذا المجال معقودة فقط في عقل و ذهنية و فكر المناضل الماركسي العربي الأستاذ ياسين الحافظ ، ومع ذلك ورغم ذلك إستطاعت صورة السعدي القيادية الجماهيرية و ((كاريزما)) مواقفه الثورية و الصاخبة من أن تتركز عميقاً في أذهان القاعدة الحزبية لكي تحتل الموقع الريادي الأول و الأوحد في بنية ذلك التنظيم الجديد ..!
و طيلة تلك الفترة المفعمة بالتغيير و التجديد ، سواء على ساحة الاحزاب التقليدية ، أو على ساحة الكفاح الفلسطيني المُسلح ، كانت روح الحيوية النضالية الثورية العالية تطبع كلياً المسار الحياتي اليومي لصاحبنا علي صالح السعدي و تجدد دائماً منسوب تفاؤله و تطلعاته المستقبلية ، فأصبح مرور الوقت أكثر ثقة بنفسه و بحزبه و أنه بات يعتقد بأنه أحد الزعماء التاريخيين المؤهلين لقيادة التيار التحرري العربي المعاصر ، خاصة بعد أن وجدَّ تعاطُفاً و تأييداً له و لتوجهاته العمالية الثورية ، من جورج حبش و نايف حواتمة و فواز طرابيشي و إلياس مرقص و غيرهم! و كان لوجوده في باريس أيامذاك ، مناسبة طيبة للإفصاح عن قدراته النضالية الذاتية و عن مكنونات قناعته و توجهاته الثورية العمالية.
إذ حين إستجاب لدعوة رجل الأعمال البعثي – من جناح أكرم الحوراني – السيد عاطف دانيال بدعوته لزيارة باريس لم يتخلف يوماً من المشاركة بكل المظاهرات و الفعاليات الجماهيرية الهادرة في الميادين و الشوارع الباريسية .. فهو مع المظاهرات العمالية المطالبة برفع الاجور !! و هو وسط المظاهرة الجماهيرية المليونية الغاضبة على إستمرار الحرب العدوانية ضد الشعب الفيتنامي و المطالبة بوقف تلك المذبحة الدموية الوحشية فوراً !!
وهو جنباً وإلى جانب هذه الأنشطة النضالية الميدانية المترسخة تاريخياً ، في أعماق و جدانه و مزاجه ، فقد بذل جهوداً فكرية و سياسية أيام وجوده في باريس كانت تصب كلها لصالح البرنامج الثوري الإشتراكي لحزبه ، و لخدمة حركة التحرر القومي العربي مع تسليط الاضواء على أخطاء و خطايا التجربة البعثية في العراق و الشام ،
و لم ينسَّ على الدوام من الإشادة و التقدير بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر و عن دوره الطليعي في الإنحياز اللا محدود أيضاً في ملاحقة الرجعية و الإقطاع و الإستعمار و إسرائيل !!
و في إطار هذه المهمة الفكرية و السياسية و الإعلامية كانت فرصة وجوده في باريس مناسبة ثمينة للإلتقاء مع الكاتب و المفكر المصري الدكتور علي السمان مراسل صحيفة الاهرام و الذي نشر في صحيفة الاهرام مقابلة مع السعدي و كان العنوان لهذه المقابلة ((السعدي يقول أن حزب البعث كان معادياً لعبد الناصر و للوحدة ، كما ألتقى مع الصحفي الفرنسي من أصول مصرية السيد ((أريك لورو)) المحرر في صحيفة ((اللوموند)) الفرنسية الذي إلتقاه في بيته و أجرى معه مقابلة صحفية طويلة لم تنشر في صحيفة اللوموند الباريسية ،
ثم كانت له لقاءات عديدة مع المفكر و الكاتب الدكتور لطفي الخولي رئيس تحرير مجلة ((الطليعة)) الذي كان يحرص دائماً على أن يكون مكان اللقاء بينهما في مقهى ((دوماتجو)) في حي ((سان جرمان)) الذي كان يرتاده ((همنغواي)) و ((ستيفان زوبغ)) و (( برشت)) و في الخمسينيات كان يرتاده ((جون بول سارتر)) و ((سيمون دي بوفار)) و في تلك اللقاءات العديدة و الطيبة و العفوية التي جرت في ضل المقهى الباريسي العريق.
كانت الأجواء هادئة إسترخائية محببة ، و منعشة ، ربما كانت بسبب نوع الخمرة الفرنسية التي إختارها الدكتور لطفي الخولي أو بسبب إنسياب الحوارات و الأحاديث المتبادلة في المجرى الوطني التقدمي .. و منذ اللحظات الاولى ، كما أخبرني الصديق السعدي ، كان من الغريب أن حالة أحاسيسنا و مشاعرنا و مزاجنا الإنساني المشترك ، كانت بأفضل تلاحمها و إنسجامها و تطابقها .