سارة عابدين
بعكس ما هو شائع عن تراجع الفنون في أوقات الحروب والثورات، يؤكد مؤرخو الفن التشكيلي على ازدهار الفنون بأنواعها المختلفة في تلك الأوقات، حيث ترتفع دافعية الفنان للتعبير عن نفسه، ويبحث عن طرق جديدة للمقاومة عن طريق الفن.
حول تأثير الحروب والثورات على الفن التشكيلي يقول الدكتور هشام المعداوي، عميد كلية الفنون الجميلة بالأقصر، إن الدراسات والمراجع تكشف تأثير الحروب والثورات على حركة الفن التشكيلي، وإن إختلفت المعطيات بإختلاف العصر. وفي العصور القديمة كانت الحروب والثورات تصنع دافعية لدى الفنان للإبداع من خلال أطروحات دعائية للحروب تمجد الحرب وتكرس للانتصارات الحربية، كما في الممالك القديمة في عصور الفن المصري القديم والفنون الأخرى في بلاد ما بين النهرين والفن الإغريقي والروماني. وهو ما امتد في العصور الحديثة في بعض الدول التي تتبنى سياسات عسكرية وتخضع لحكم الفرد الحاكم مثل كوريا الشمالية التي ما زالت الحروب موضوعاً مفضلاً لفنانيها التشكيليين.
ومع تغيّر الأوضاع في العالم الحديث وخاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وإحساس الخراب في العالم تغيرت قناعات الفنان التشكيلي بالحروب ولم تعد هناك نفس المساحة التي كان
«بعد الحرب العالمية الثانية، تراجع ما يعرف بفن الدولة، أو حشد الفن من أجل ترسيخ مفاهيم دعائية سياسية، وأصبح التعبير عن الثورة أو الحرب يتم من خلال فردية الفنان فقط» الفن التشكيلي يفردها للحروب والثورات وتراجع ما يعرف بفن الدولة أو حشد الفن من أجل ترسيخ مفاهيم دعائية سياسية وأصبح التعبير عن الثورة أو الحرب يتم من خلال فردية الفنان فقط بحيث لم يعد له نفس التاثير القديم.
الفنانة العراقية المقيمة بالسويد روناك عزيز تقول إنها عاشت لسنوات طويلة في بغداد بالعراق، عاصرت حروبا متعددة منذ طفولتها، بدءا بالحرب العراقية- الإيرانية، ثم حرب الخليج، وسقوط نظام الحكم في العراق، وسقوط تمثال صدام حسين في 4 مارس/ آذار 2002.
تؤكد عزيز أن الحرب لها تأثير مباشر وكبير على الفن والأدب والحياة بكل تفاصيلها، لذلك تظهر آثار الحروب في أعمال الفنانين العراقيين بشكل عام، منهم من استخدم بقايا ومخلفات الحروب، أو الطلقات الفارغة، ومنهم من رسم تفاصيل الحروب وأهوالها، لأن الفن مثل المرآة، يعكس ما حوله، ويسمح للفنان بالتعبير بالطريقة التي تناسبه، بشكل تعبيري، أو رمزي أو حتى واقعي، لذا لوحات الفنانين الذين يعيشون في أجواء الحروب مثل العراقيين أو السوريين، تظهر فيها المعاناة والصراعات والتساؤلات التي تدور بدواخلهم.
عزيز تعيش حاليا في السويد، لكنها ما زالت تحمل صراعاتها معها، وتقول إن الفنانين السويديين لا يرسمون أبدا مثل العراقيين مثلا، بل يرسمون مناظر طبيعية رائقة وزهورا بألوان مائية هادئة، ولا تتشبع لوحاتهم بالمآسي والصراعات، بعكس الفنان العراقي الذي لا يمكنه أبدا رسم مثل هذا النوع من اللوحات.
يقول الفنان التشكيلي السوري مجد كردية إن الفنان ابن زمانه ومكانه، ولا يمكن فهم أي عمل فني دون تحديد مكانه وطبيعة الزمن الذي صنع فيه. ولا يمكن لأي شخص فنان أو غير فنان أن يعزل نفسه عن محيطه خاصة في زمننا هذا.
يرى كردية أن تأثير الحروب على الفن له شقان، الشق الأول هو تحول الفنون إلى موضوع هامشي وغير مهم، وتتم محاربتها لأسباب سياسية أو دينية، ومن جهة أخرى تبقى الفنون من أهم الأدوات التي تمنع الإنسان من السقوط في حفرة التوحش، وهي الخيط الرفيع الذي يربط الإنسان بإنسانيته.
يتكلم كردية عن الحروب والموت المجاني، وعن النزوح والظلم، بشكل غير مباشر ودون أن يستغل جراح الآخرين، ويرى أن الفن ليس هدفه أن يجد حلولا. ويرى أن الفنان في هذا الزمن يشبه عازفا يعزف بمنتصف المعركة، قد يضطر أحيانا إلى رفع الصوت بشكل مبالغ فيه حتى يحاول التفوق على صوت المدفع.
الكاميرا والتوثيق
الفنانة التشكيلية والمصورة الفوتوغرافية المصرية سلوى رشاد تذكر أنها كانت منقطعة عن المرأة بمفهوم أكثر اتساعا هي الشاغل الأهم لرشاد، وهي أساس التكوين الفني، وحاملة القرابين. المرأة هي الوعاء الذي صبت فيه كل الإساءة والدمار والألم، وكانت ترغب في ربط المتلقي بذاكرة الحروب من خلال الصور الفوتوغرافية التي تخص سورية والعراق وفيتنام.الرسم لفترة طويلة قبل ثورة 25 يناير 2011، بالرغم من أن الرسم هو دراستها وهوايتها واهتمامها الأساسي، لكنها انقطعت عنه لفترات طويلة، وكانت أكثر تركيزاً في الفوتوغرافيا. وفي أثناء ثورة 25 يناير كانت الكاميرا هي الوسيلة التوثيقية التي تصاحب الجموع في كل المناسبات، خاصة بعد تحول الصور إلى التقنيات الرقمية، ما جعلها أسهل في التناقل، بالإضافة إلى الغرافيتي الذي يصاحب كل الثورات كحالة إعلان عن الرفض والثورة على الأوضاع.
تقول رشاد إنه بعد الثورة أصبح عندها تساؤل شخصي عن الفن الخاص بها، وفكرت في الفوتوغرافيا بشكل فني، وكيف يمكنها أن تجد مكانها الخاص الذي يربط بين الفوتوغرافيا من جهة
التشكيل والحروب والثورات
الفنان التشكيلي والشاعر الليبي علي حورية يقول إن ازدهار حركات الفن التشكيلي عبر العصور كان ملازما للحروب والثورات، ولم تكن تلك الأحداث بمثابة تعزيز لتجارب الفنانين فحسب، بل كانت سبباً رئيسياً في إخراج كوادر فنية جديدة للمعترك الفني، ولعل هذه العلاقة الطردية بين ازدهار الفن وبين الحروب معروفة الدلالة والمصدر، لأن الفن بوصفه طريقة استحضار للذاكرة الجمعية، يجد المناخ الخصب لحالة الاستثارة التي تنتج العمل الفني في حالات الغضب والفقد والحزن والدهشة وتهيج غريزة الانتقام والانتصار.
أما عن تجربته الخاصة فيقول حورية إن فترة الحرب أسهمت في صقل تجربته التشكيلية، وأسهمت في غزارة إنتاجه، وجعلته يبحث في أدوات وتقنيات جديدة لم يعرفها من قبل، ولم يكن ليتعاطاها بشكلها الجديد، لولا ظرف الحرب.
*ضفة ثانية