ملهم الملائكة
تبحث نسرين مَلَك عن هوية، وهي التي تعلن أنها ليست كاتبة محترفة، تظن بشكل ما أنّ لص اللافندر هو الذي سرق تلك الهوية. هذه قراءة في كتابها «سارق اللافندر» الصادر عن دار الجديد في بيروت.
دون بحث في العلة والمعلول، تشتم نسرين من هدموا الحلم العراقي الجميل وحولوه إلى كابوس وسخ موغل في النزيف، ومن مفارقات الزمن أنّ طليقها الصحفي الراكض خلف يساريته إنضّم هو الآخر إلى سرب الهاربين من النزيف إلى النزيف – بإرادته أو دون أن يدري – بعد أن أخرجها»ناشزا في ظل المنجل والجاكوج» على حد وصفها.
أحلى ما في اليوميات أنها غير متسلسلة وتنأى بشدة عن وحدة المكان وتسلسل الزمان المنطقي، فالكاتبة تقفز بين المطارات بلا هوادة، متنقلة من ستينيات القرن العشرين إلى العقد الأول من الألفية الثالثة، لترتد إلى سبعينات بيروت قبل أن تحرقها الحرب، ثم ترحل إلى بغداد في العقد الثاني من الألفية الثالثة، وتذهب بالتواريخ إلى القاهرة في ثمانينات القرن الماضي، ثم تعود إلى كندا الغارقة بالثلوج. وما تلبث نسرين أن تتريث على أبواب العواصم الموحشة في هجرة متصلة لا تقدم لها تفسيراً، إلا أنها بلا شك ترتبط بتقلبات السياسة في أرض الرافدين بتاريخها الدامي.
تتريث نسرين باحثة عن معنى لحزنها المتصل، وعن هوية أخرى قد تشبع جوعها متعدد الهويات، وفي خضم ذلك تُضطر إلا أن تُسقط جنين مشروع طفلة في القاهرة.
*هي عراقية هاربة من العراق وتحنّ إليه، لكنها لا تطيق فيه عيشا، والفساد وغياب الأمن وتردي البنية التحتية ينتزعها دائماً من أحلامها ليطردها إلى جواره العربي فتختار عمّان مستقراً لها.
*وهي قريبة من الشيوعية، لكنّها لا تؤمن بها، ومع ذلك تبقى حائمة في سحابة اليسار المرتبكة، فتحبُ بعض الرموز الشيوعية، والأنكى، أنّ من يُعلن نفسه تحت يافطة «الشيوعي الأخير» سعدي يوسف هو مثالها الشعري من عشرة الشيوعيين، وهو المعروف بعدائه المر لعراق الألفية الثالثة، بل يسحب البعض عداءه هذا حتى إلى مستوى المكونات المتصارعة. وهكذا تتقلب مواقف الكاتبة مما جرى ويجري في العراق، لكنها تبقى دائما موشاة بعطر المحبة، وبمشاعر يكللها الورد، فيظهر اللافندر والياسمين والقداح والغاردينيا والتمر اللذيذ والقيمر العراقي مراراً في تداعيات حب عراقية مغرقة في البراءة .
*ولأنّ نسرين لم تعش سنوات الجمر المحرقة حيث بدأ ناقوس الحرب يقرع منذ عام 1980 ولم يتوقف حتى اليوم، ولأنّها لم تعرف من هو صدام حسين كما عرفه العراقيون، فقد بقيت تتشوق لعراق براء من الدم والمجازر والحلبجات والأنفالات، مغرق بالشاعرية وهو يغفو على ضفاف دجلة والفرات كما عرفته في صباها، وهو بالتأكيد عراق لا يعرفه العراقيون الذين تقابلهم في رحلاتها المكوكية كافكوية السوادعبر أروقة ومكاتب الدوائر الرسمية المهدمة الوسخة، وفي سيارات الأجرة وفي ثنايا الشوارع الفوضوية.
*هي مهاجرة في شبابها المترع بالعشق إلى بيروت قبل أن تحرقها الحروب، فأحبت بحرها وليلها وفيروزها وزحلتها دون أن تلتفت الى شميم البارود، وعذابات التناحر الطائفي، وسلطة الميشليات المتناحرة التي سحقت بيروت الجميلة. وهي لم تهتم أن تعرف لمّ تمزقت بيروت ولمّ فقد لبنان قدرته على التفاهم مع نفسه.
*وهي مهاجرة إلى مصر حيث أمضت عقداً فيها ولم تنل سوى جفاء حكومي، وصلافة بيروقراطية، تهدم كل دعاوى الوحدة و»الوطن العربي» و»الشعب العربي» التي أورثتها مصر الناصرية للعالم العربي، دون أن تمكّنه من أن يتحقق بهذا الوصف أو ذاك.
*وهي ليست عربية قحة، وباتت تعلن بلا خوف أنّ أصولها من جهة الأب إيرانية من دزفول جنوب أيران، تعلن نسرين ذلك بصوت جهير بعد انهيار المشروع القومي في العراق، لكنها في نفس الوقت تأبى أن تنصاع إلى الوصفة السياسية الإسلامية، وتبقى قريبة في خيالها وتداعياتها من الحاشية الشاهنشاهية التي غاردت إيران تباعا منذ قيام»الجمهورية الإسلامية في إيران».
*هي أمّ عاشقة لبنيها، وتسافر لأجلهم إلى شنغهاي في الصين لتسكن في بيت ابنها وزوجته الصينية، ومع ذلك فهي لا تنسى ما أصاب يارا التي كانت مجرد مضغة صغيرة في رحمهت ولم تستبن نسرين وزوجها إن كان ذكراً أو انثى، ومع ذلك فقد ضحيا بها خشية إملاق حذرها منه زوجها، فلبثت لائمة له مدى العمر لتلك»الجريمة»، وتستذكر مستوحشة بالخوف مشرط الجراح الستيني في القاهرة الذي اسقط حملها الحلم.
*اللافندر الذي يتردد باصرار في ثنايا كتابها، يصلنا عبقاً، متسللاً بين ثنايا أفرشتها في العواصم والبلدان، وهكذا تشير إلى سر اللافندر بالقول» 2 يناير 2014، أعطتني صديقة عزيزة قبل مغادرتي عمّان إلى بغداد كيساً من اللافندر قطفته من حديقتها… ثم وضعت الكيس تحت مخدتي في بغداد لأنه يساعد على نوم شخص أرق مثلي… واستغربت حين لم أجد منه سوى غصن في اليوم التالي، أين السارق يا ترى؟ صار شغلي البحث عنه، ولعجبي رأيت عصفوراً يسرق الغصن الباقي ويطير به». وتسرع لتطلق عبارة تشي ببحثها المضني المرتبك عن هوية «سُعدتُ يومها وامتلأ قلبي فرحاً ونشوة. هذا عصفور عراقي بنى عشاً له ولذريته من غصن نبتة لافندر زرعت في عمّان وقطفت بيد محبة وكريمة». اللافندر اذا رمز أممي لنسرين .
*تعيش في كندا، وتعلن بلا تردد أنّ هذا البلد جعلها قوية و منحها أحلى الحريات ومنحها جواز سفر تتساقط دونه ذليلة الممنوعات العربية، وتفتح المطارات لها أبوابها بسببه…لكن الباحثة عن هويتها تعلن بصراحة جاحدة أنها لا تحب كندا وتكره ثلجها.
*بعذوبة سقتها مياه البحر المتوسط والنيل تقول نسرين» صعبتُ على نفسي، منذ أبد الآبدين أركض لألحق بالزمان وحدي…كيف ربيت الأولاد. وحدي بالقاهرة بينما كان الأب بسوريا يناضل أملاً بتغيير الكون، وكنت أنا أناضل بتربية الأولاد والعمل لتوفير لقمة العيش…أمس، بكيتُ وحدي وتذكرتُ شاطيء الإسكندرية، «شط الهوا…».
*سارق اللافندر كتاب ذكريات بنكهة الشعر، وبنغم فيروزي وبغدادي وكلثومي عابر للتوصيف، ففيه كل ذلك، وفيه الحلم، وتنهي نسرين مَلَك كتابها بالقول»ما من شيء أجمل من الأحلام…»
بغداد- ربيع 2019