د. صالح الصحن
يشكل التذوق الفني في السينما والتلفزيون معياراً رئيساً لقياس مستوى ما يصل الينا من معنىً ناتجاً عن مشاهدتنا لمعطيات المشهد البصري وما يدور في الفضاء الدرامي المرئي الذي تطرحه السينما والتلفزيون.
ويعتمد هذا المعيار على مستوى تقنية الصنعة فكرياً وجمالياً، المحملة بخواص الصورة وعناصر تركيب المنجز الفني ككل، وكذلك على مستوى التلقي وما يتسم به المتذوق من مهارات معرفية عامة ومتخصصة في حيثيات الصورة وميادين علاقتها مع الشكل والحركة والجمال والضوء واللون وطرائق السرد والتقنيات المتعددة وغيرها من القدرات.
والسينما والتلفزيون من المنجزات السمعية والبصرية التي تتخذ أشكالاً عدة برامجياً ودرامياً، حققت اعمالاً جمة في العقود الزمنية الممتدة منذ نشأتها ولحد الآن، اذ كشفت عن تعدد مختلف من مدارس واتجاهات وأساليب عبرت عن التباين الفلسفي والجمالي لهذه الأعمال والتي خلّد فيها التاريخ الفني نتاجات ابداعية لافتة في ذائقة المشاهد بإختلاف الرؤى وطرائق التناول، والتذوق الفني ينتمي الى مدرسة معرفية فنية يتحتم عليها ان تعلّم ابجديات اللغة السينمائية والتلفزيونية، وبما يقودنا الى معرفة عناصر هذه اللغة وكيفية تركيبها وتجانسها وتناسقها في شكل ومضمون المنجز الفني. ويقودنا التذوق أيضاً الى الموقف، الى الحكم.. الى القبول او الرفض تبعاً لإقتراب هذا العمل من ذائقة المتلقي او الإبتعاد عنه، او بما لا يتطابق نفسياً وروحياً ومعرفياً، او قد يكون صعباً شائكاً معقداً، لا يسهل هضمه، وفك رموزه وشفراته وغاياته، (فالواقعية الحقة في كل صورة لا تخرج ابداً عن الذوق السليم، ومتعة العين والأذن، ومتعة الروح والعقل، ومهما كان هناك من قبح في الواقع المعاش فإن مشاكلته تتم في بناء متناسق يعطيه سمة الجمال الفني، وبهذا الأسلوب يكون المشاهد اكثر استعداداً لتقبل اية رسالة واستيعابها)( ). وهنا ينبغي على المتلقي تنشيط سمة التمييز والتشخيص، والتي تستمد قدرتها من السعة المعرفية التي تمنحه الإدراك والابصار في الرفض او القبول، او التفاعل او الامتعاض بما ينضج الموقف الذهني الجمالي للذائقة.
وعالم اليوم أصبح يتعامل مع المنجزات الفنية الإبداعية وما طرأ عليها من انعكاسات اسلوبية واتجاهات متعددة وتقنيات فنية مبتكرة، بتعددٍ لا متناهٍ من الفهم والاستيعاب والتفسير والتأويل تأثراً بثقافات متنوعة، متصارعة، ملتزمة او غير ذلك، والى حد الإغتراب والضياع، الأمر الذي يجعلنا ننظر الى ان عالم الصورة في السينما والتلفزيون هو جزء من التعامل والذي نخشى عليه وهو يواجه اعقد التقنيات الاليكترونية والمؤثرات المدهشة سمعياً وبصرياً.
فضلاً عن الى العوالم الافتراضية والبرامج والمهارات الصورية المعقدة التي تروج للقلق والريبة بما تقدمه من استهداف كبير لحياة الإنسان وتأريخه وحرياته ومعتقداته ومشاعره واحاسيسه والى مزاجه النفسي اليومي، عبر صور وأفكار ومفاهيم لا ترتقي الى ذائقته الإنسانية ومكانته اللائقة ودوره المتحضر في الحياة، واذا كنا نسترشد بالتداولية بحثاً عن اجابات جلية لاشكالات جوهرية تكمن في معرفة من الذي يعرض؟ والى مَن؟ ماذا يعرض بالضبط؟ وكيف يُعرض شيئاً ويقصد بشيئاً آخر؟ ذلك من مهمات الفهم والإدراك الذي يمد سمة التذوق بقدرات التلذذ والتفسير. والكاتب عبد الرحمن محمد العياط يرى في التذوق على انه عملية احساس وجداني بمواطن الجمال في العمل الفني ويشير له على انه اتصال وجداني بين الجمهور المتلقي وبين العمل الفني بعد اكتشاف السمات الجمالية، حيث يلقي العياط الدور الرئيس لعملية التذوق على المتلقي ومستويات وعيه وثقافته وخبراته العملية اذ يقول: (المتذوق ذاتي التفاعل، لا تتعدى درجة قبوله او رفضه للعمل السينمائي ابعاده الفردية، فليس له صفة الاعلان بالحكم الجمالي على الأعمال السينمائية، لأن عملية تذوقه للعمل السينمائي تشوبها الذاتية النفسية والمزاجية، والانطباعية والخلفية الاجتماعية والبيئية، ومخزونه من الثقافة السينمائية، وقد لا تتوفر لدى المتلقي لغة حوار راقية وهي التي ينقل بها صورة العمل السينمائي، ولذلك تتوقف عملية التذوق على مدى درجة دراية المتلقي بعناصر الفيلم السينمائي وانواعه)( ). وهنا لا يمكن التصور المطلق على ان اغلب او جميع طبقات التلقي من الجمهور ذو الدراية الكافية بعناصر الفيلم ومعطياته المرئية والسمعية. الأمر الذي يفتح آفاق تباين مستويات التلقي تبعاً.
لدرجات المعرفة ولإطلاع والتخصص واكتساب المهارات الفنية، (ان دوافع الذهاب الى السينما تختلف من فرد لآخر ومن عمرٍ لآخر، ومن جنسٍ لآخر، ومن ثقافة لأخرى، مع وجود جوانب خاصة تقف وراء فعل الذهاب او المشاهدة، لكننا نعتقد ان نشاطات مثل التخييل، واحلام اليقظة، والتوحد مع الأبطال لهذه الأفلام او تلك ومحاولة المتفرج الخروج من أسر حياته (الراكدة) وان يحيا حياة ثانية هي حياة هؤلاء الأبطال، وان يحقق من خلال بعض ما تمنى ان يحققه في حياته هي من الأمور المهمة هنا وخاصة عند المشاهدة لأفلام الحب والبطولة والقيام بالمآثر العظيمة)(1 ).
ذلك لأن التذوق الفني في السينما والتلفزيون له خاصية مميزة وذات فعالية تأثيرية كبيرة بفضل الصورة، ولهذا نراه يدفعنا بفعل السعي الى الحلم والتأمل الإدراكي والتحسس المادي الى التشخيص وتمييز الأشياء التي نراها ونسمعها، ونحلم بها، فالصورة المرئية هي مَنْ يقع عليها فعل الرؤية وقوة التحسس، وليس غريباً ان تشترط هذه الصورة جملة من العناصر الحركية كي تحتفظ بصفتها المرئية، فالمكان والضوء والحركة واللون والموجودات الحقيقية والافتراضية، ومجمل العلاقات الداخلة في الفضاء والدائرة الصورية، ولكن اشتراطات جمالية تتطلب تنسيقاً محكماً لهذه العناصر لخلق تكوينات مؤثرة وفاعلة بشخوصها وباحثة عن معنىً وفلسفة للحدث (ان السينما تقوم بالتكوين الخاص او الانشاء الخاص لمشاهدها او المتلقي لها وتحويله الى حالم شبه مستيقظ، فالمشاهد للسينما هو مشاهد راغب او مملوء بالرغبات وحالة المشاهدة التي «تكوّن» هذا المشاهد، وكذلك نص الفيلم نفسه، بعّدهما يحركان بنيات التخييل اللاشعوري، وتكون السينما هنا بشكل يفوق اي شكل آخر، قادرة فعلاً على اعادة انتاج او الاقتراب من بنية ومنطق الاحلام واللاشعور)( 2). وهنا تتحرك مهارات المتلقي بتشغيل حالات التماثل والاقتراب والتشابه مع الأفعال والشخصيات التي تقوم بها، بما يصل حد التوحد مع الذات الأخرى او استعارة دورها للتعايش مع ما تقوم به من دور، وذلك ما يخلق حالة اندماج صورة الفيلم مع الحلم الذي يلبسه المتلقي بحثاً عن المتعة والمعنى، وبما يجعل المشاهد المتلقي يلاحق العرض البصري
ويبحث ويكتشف كيفيات الصنعة والتركيب والأساليب التي تختلف من صانع الى آخر وفق التنوع المتعدد من الأفكار والمعتقدات البصرية، (ظهرت السينما الجديدة او سينما الفن التي تقوم على اساس تداخل الأزمنة. والنهايات المفتوحة، والحيرة، والمتاهة الفردية، أو الجماعية وإثارة الأسئلة، لا تقديم الاجابات، مع الاهتمام كذلك بجماليات جديده هي جماليات الصورة، كما تتمثل وتتجسد من خلال الصورة والضوء واللون والتعبير والحركة، وغير ذلك من عناصر تشكيل الفيلم أو تكوينه، التي تطلبت أيضاً ضرورة تكوين جماليات جديدة خاصه بالتلقي والتفضيل الجمالي)(3،4 ).
( ) حسين حلمي المهندس، (دراما الشاشة بين النظرية والتطبيق للسينما والتلفزيون، الجزء الثاني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990)، ص10.
( ) عبد الرحمن محمد العياط، (معنى التذوق وكيفية تذوق الفيلم السينمائي، المعهد العالي للنقد الفني، جمعية فنون أدبية، مصر، 2014) ص7.
( ) شاكر عبد الحميد، (التفضيل الجمالي، دراسة في سيكولوجية التذوق الفني، عالم المعرفة، الكويت، 1999)، ص367.
( ) شاكر عبد الحميد، (التفضيل الجمالي، دراسة في سيكولوجية التذوق الفني، عالم المعرفة، الكويت، 1999)، ص382.
( ) المصدر نفسه، ص365