يستعمل مصطلح النظرية النقدية في العلوم الاجتماعية ليشير الى نظريتين مختلفتين من حيث النشأة والتاريخ.
من حيث التاريخ فان النظرية النقدية نشأت او انبثقت من النظرية الاجتماعية اما النشأة فانبثقت من النقد الادبي.
التطورات التي طرأت على مناهج العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية استطاعت ان تزيح بعض الفوارق والحواجز ما بين النظريتين، وأصبح هناك تداخل بين النقد الادبي الذي يدرس بنية النص وبين الدراسات التي تتعلق بالمجتمعات البشرية والأنظمة التي تسود فيها.
وبناء على ما تقدم فان مصطلح النظرية النقدية بات شائعا جدا، إضافة لكونه مصطلحا واسعا يغطي مجالا واسعة من النظريات العلمية التي تتناول منهجية دراسة العلاقات بين المكونات سواء كانت مكونات أدبية نصية أم مكونات اجتماعية أنثربولوجية وهي غالبا ما تندرج ضمن نظريات ما بعد الحداثة.
رسم آلن هاو في كتابه النظرية النقدية الخطوط العريضة لما بذله هور كهايمر من جهود أولى بوضع نظرية ديالكتيكية تقف إزاء نظرة سلفه غرونتبرغ الوضعية “الاستقرائية”، غير ان النظرة الديالكتيكية التي قدمتها النظرية النقدية لم تقتصر على الماركسية الوضعية حسب، بل تعداها أيضا الى وجودية تلك الفترة.
ويستكشف هاو في فصل آخر الطريقة التي سعى من خلالها يورغن هايرماز منذ أواسط ستينيات القرن العشرين الى إعادة بناء النظرية النقدية في اتجاهات تتغلب على التشاؤم والتناقض في اعمال اسلافه.
يذكر هاو انه في فصول الكتاب أراد ان يكشف للقارئ أوجه النظرية النقدية المختلفة، مشيرا الى طبيعتها المبرقشة متعددة الألوان، وتطورها التاريخي، غير ان اهم ما آمله ان أكون قد أشرت إليه هو صلتها بالراهن.
تأليف: آلن هاو
ترجمة: ثائر ديب
الحلقة 8
ما بعد الحداثة عند بودريار:
وعند بودريار، أنَّ النمو المتسارع في الاتصالات الجماهيرية، هيئة التلفاز متعدّد الأقنية، وعالميّ النطاق، الذي يبثّ على مدى 24 ساعة، والنمو المتسارع في تكنلوجيا المعلومات، والإنترنت وأنظمة التحكم السيرنتيكية، قد ولَّد حملاً زائداً من المعلومات. أما الأثر المرتّب على ذلك فيتمثل في نزع إستقرار المعنى على نحو جذري. فالقدر الضخم من المعلومات التي تفرض علينا ونُجبر على قبولها يدفعنا (نحن الذوات) لأن نندمج بالمعلومات (أو الموضوعات). وثمّة الكثير من صور الحقيقة المتاحة، حتى باتت فكرة وجود عالم واقعي يمكننا أن نعلم حقيقته فكرةً إشكالية. وبلغة ألسنية دي سوسور، فإن العلاقة المستقرة، على الرغم من إعتباطيتها، بين الدال والمدلول قد تحطمّت. فنحن نعيش الآن في عالم توافرت فيه الدوال إلى حد كبير حتى باتت “تعوم حرّة”؛ ذلك أنّ الدال بات قادراً على أن يقيم بطريقة تكاد أن تكون خاصة به تشكيلة من العلاقات العابرة للحدود مع الدوال الأخرى. أما النتيجة المترتبة على ذلك فهي أن المعنى قد بات غير مقبوض عليه وخارج السيطرة على الدوام، وصار من الممكن النظر إلى مفاهيم مثل “الطبقة الإجتماعية” على أنها عابرة سريعة الزوال مثل أي مفاهيم أخرى.
يشير “الدال”، عن دي سوسور إلى الكلمة الفعلية المادية كما تُنطق أو تُكتب، أو بشيء من التوسع إلى الصورة كما تظهر على الشاشة، في حين يشير “المدلول” إلى المفهوم أو الفكرة التي تمثلها الكلمة.ويمكن أن نوضح بمثال ما يعنيه بودريار بالتفشّي المتزايد للدوال العائمة بحريّة. فلقد روى جون ستوري (1993) عن ذهابه الى مطعم ايطالي في جنوب انجلترا ورؤيته صورة كبيرة للمثل الأميركي مارلون براندو معلقة على الجدار . ولقد أدرك مباشرة مدلول الصورة ألا وهو الطليانية، من خلال الدور الرئيس الذي لعبه براندو في فلم العراب (1972) لكنه تحير من تلك السهولة التي صار يمكن بها التقاط الصلة المخلّعة بين ايقونة سينمائية أميركية والطليانية. وبحسب بودريار، فإن الصور لم تعد مقيدة إلى أي شيء محدد أو نوعي في العالم الواقعي، بل باتت تتحرك هنا وهناك بسيولة، قافزةً عبر حدود “الواقع” التقليدية بكل طريقة يمكن لنا أن نتصورها.
وفي ثمانينات القرن العشرين، طور بودريار أفكاراً ثلاثاً وفي وصف ما يجري: المحاكاة، والإنفجار، والواقع المفرط. فعند بودريار، إننا نعيش الآن في حقبة تحاك فيها وسائل الإعلام الواقع إلى درجة ينبغي معها فهم الواقع، بما فيه نحن أنفسنا، على أنه من نتاج الإعلام. فليس ثمة “واقعي” مستقل عما يبنيه الإعلان. ولا يحدد بودريار أية قوى سياسية او إقتصادية يمكن أن تكون خلف هذا التغير، لكنه يعتبر الحاكة العامل الطاغي في تحديد هذه الحقبة، بصرف النظر عن القوى التي أنتجتها. وفي سياق المحاكاة، فإن صورة “الموضوع” (أو تمثيله) تصطدم ب”الموضوع الواقعي” وينفجر الاثنان أو ينهاران واحدهما في الآخر، فينزعان إستقرار أيّ تصّور ثابت للواقع. ولا تلبث حالة من فرط الواقع أن تبرز إلى الوجود بالتدريج، حيث يحلّ ما حوكي، أي النموذج أو التمثيل، محلّ أي عنصر متبقٍّ من عناصر الواقعي ويغدو هو الواقعي بدلاً منه.
ولعل مشاهدي التلفزيون البريطاني يتذكرون مسلسل “Spitting Image” الذي يتناول بالهجاء أوجهاً مختلفة من الحياة العامة مستخدماً دمى مطاطية مشوّهة المنظر لتمثيل السياسيين. وقد إشتمل أحد المقاطع على رئيس الوزراء آنذاك، جون ميجر، الذي مثلته دمية مطاطية رمادية وهو يحاول أن يتناول حبّة بازلاء وحيدة في صحن معلناً لزوجته أنَّ البازلاء “خضار مهمة جداً”. ولقد سألت مرة مجموعة من الطلاب، دون أيّ إشارة إلى البرنامج، ما اللون الذي سيعطونه لجون ميجر إذا ما كان لهم أن يعطوا ألواناً لسياسيين؟ ووافق الجميع ضاحكين أنّه اللون الرمادي. ومع أنَّ هذا المثال لا يثبت ما يطرحة بودريار، إلا أنّه يبين القوة التي تغدو بها صور الإعلام “أكثر واقعية” من الواقعي، بل وتحدّد ما هو الواقعي.
ومن الامثلة الأخرى على الكيفية التي بتنا نقبل بها محاكاة “الواقعي”، ما نجده في البرنامج الإستعراضي “Stars in Their eyes” الذي بثّه التلفزيون البريطاني. ففي هذا البرنامج قام مطربون مغمورون بأداء أغنيات مشهورة قديمة، مرتدين مثلما كان يرتدي مطروبوها الأصليون، ومقلّدين أصواتهم. ومن ثمَّ طلب من المشاهدين أن يتصلوا ويصوتوا لمطربهم المفضل، وبعد حوالي عشرة أسابيع جُمِعَ الفائزون معاص في التصفيات النهائية. وقد ظهر هؤلاء المطربون كما لو أنهم الفنانون الأصليون ولم يكن واضحاً ما إذا كان المطلوب هو أن نحكم على مقدار حبنا للمطرب الأصلي والأغنية، أو على نوعية المحاكاة. فالإثنان مندمجان، غارقان في خضم من الحماس الذي تطلقه الثواني القليلة الأولى من “المشهد” المندفع. وبكلام بودريار، فإنَّ من العبث أن نتساءل ما إذا كنَّا نشاهد الشيء “الواقعي” أم محاكاة له، ذلك أنَّ الاثنين قد إنفجرا ولم يبق لدينا سوى الصورة أو “المشهد”.
لقد عنْوَّنَ بودريار واحدةً من منشوراته التي حظيت بصيت (سيء) حرب الخليج لم تقع (1995). وهي تتألف من ثلاث مقالات كُتبت في فترة حرب الخليج: “حرب الخليج لن تقع” و”حرب الخليج: هل هي واقعة حقاً؟”، و”حرب الخليج لم تقع”. وبتلخيص سجال بودريار، في جوهره، في أنَّ منفذنا الوحيد إلى حقيقة الحرب هو الإعلام، ولذلك فإنَّه ليس لمشاعرنا وتأكيداتنا بشأن الحرب أي أساس في الواقع يتعدى الأساس الذي لأيّ وجه آخر من أوجه الحياة. فالحرب، مثل كل شيءٍ آخر، هي قطعة من بلاغة الإعلام تُنْقع فيها حياتنا اليومية. ولا يشير بودريار هنا إلى أنّ الإعلام يشوه الحقيقة، لأنّه ليسّ ثمة أية حقيقة تقبع وراء المظاهر، بل يشير إلى أنّ الإعلام يعيد إنتاج واقع مفرط لا تعدو أسئلة الحقيقة فيه ان تكون ثمرة للبلاغة. وكل من تتوق نفسه إلى الحقيقة “الفعلية” فإنّه يتهم بأنّه مقيد على نحو نوستالجي إلى رؤية للعالم مطلقة تهتم بالحقيقة وتأبه لها. فالحقيقة، عند بودريار، هي الآن ذلك الشيء الهزيل: وأولئك الذين يفوزون بألعاب “الحقيقة” هم الذين يتضلّعون من البلاغة أحسن التضلع إلا أنّ إنتصاراتهم فارغة ولن يحكموا قبضاتهم عليها، الآن:
ما بنتجه الإعلام ليس إضفاء الطابع الإجتماعي، بل العكس تماماً، أي إنفجار
الإجتماعي في الجماهير. وليس هذا سوى توسع عياني كبير لإنفجار المعنى
على المستوى المجهري الصغير للمدلول… وما يعنيه هذا هو أنَّ محتويات المعنى
جميعاً تكون مُمْتَصَّة في شكل الوسيط المسيطر الوحيد. فالوسيط وحده هو الذي
يمكنه أن يصنع حدثاً، مهما تكن المحتويات. سواء كانت إمتثالية أم هدّامة.
ويرى بودريار أن محتويات الوسيط (كالتلفزيون مثلاً) يتم “تحييدها”، ولا يمكن لرسائل “الإمتثاليين” أن تكون أكثر نجاحاً من رسائل “الهدّامين”، بل إنَّ هنالك علاوة على ذلك:
إنفجار الوسيط ذاته في الواقعي، وإنفجار الوسيط والواقعي في ضرْبٍمن السديم
الواقعي المفرط، الذي لايعود ممكناً فيه حتى أن نحدّد تعريف الوسيط أو فعله الميز.
ونظراً لإنهيار الرسالة، والوسيط، والواقعي كلٌ في الآخر، فإنَّ المرء يرتاب، كما يشير نوريس (14:1992)، في أنَّه حتى لو زعم أنَّ حرب الخليج قد وقعت فإن بودريار سوف يساجل قائلاً إنَّ أيَّة أَدِلَّة تُقَدَّم هي زائفة حتماً، وليست أكثر أو أقل صدقاً من أيّ إدعاء سديمي آخر يطلقه الإعلام.
ينزع الفكر ما بعد الحداثيّ إلى تجنب النقد الذي يمكن أن يطاوله بإعلانه أنَّ نقّاده لا يزال يقيدهم الحنين إلى رؤية للعالم عتيقة تهتم بحقيقة إغتراب الذات. وهذا ما يجعل عقد المقارنة النقدية بين ما بعد الحداثة من جهة وأدورنو وزملائه من جهة أخرى أمراً صعباً. ففكرة “موت الذات” أو أنَّ الذات قد إمتصها الموضوع، تلك الفكرة التي يعتبرها ما بعد الحداثيين تبصراً أساسياً، هي الشيء الذي خشيت من النظرية النقدية أشد الخشية. فمع أنّه لم تكن لديهم أيَّة أوهام حيال هشاشة الذات، إلا أنهم ألحوا على أنّ الذات ليست مجرد نتاج للمجتمع أو ل”لنظام دال”، وهذا ما كان ينبغي أن ينعكس في النظرية.
ولقـد ملأتهم رعباً فكرة أنّ الفردانيـة الناجة المجدَّة، مهما تكن محدودة، والتي إنبثقت مع الرأسمالية فـي مرحلتها التنافسية، سوف تُهـزم في المجتمع الإستهلاكي.