يستعمل مصطلح النظرية النقدية في العلوم الاجتماعية ليشير الى نظريتين مختلفتين من حيث النشأة والتاريخ.
من حيث التاريخ فان النظرية النقدية نشأت او انبثقت من النظرية الاجتماعية اما النشأة فانبثقت من النقد الادبي.
التطورات التي طرأت على مناهج العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية استطاعت ان تزيح بعض الفوارق والحواجز ما بين النظريتين، وأصبح هناك تداخل بين النقد الادبي الذي يدرس بنية النص وبين الدراسات التي تتعلق بالمجتمعات البشرية والأنظمة التي تسود فيها.
وبناء على ما تقدم فان مصطلح النظرية النقدية بات شائعا جدا، إضافة لكونه مصطلحا واسعا يغطي مجالا واسعة من النظريات العلمية التي تتناول منهجية دراسة العلاقات بين المكونات سواء كانت مكونات أدبية نصية أم مكونات اجتماعية أنثربولوجية وهي غالبا ما تندرج ضمن نظريات ما بعد الحداثة.
رسم آلن هاو في كتابه النظرية النقدية الخطوط العريضة لما بذله هور كهايمر من جهود أولى بوضع نظرية ديالكتيكية تقف إزاء نظرة سلفه غرونتبرغ الوضعية “الاستقرائية”، غير ان النظرة الديالكتيكية التي قدمتها النظرية النقدية لم تقتصر على الماركسية الوضعية حسب، بل تعداها أيضا الى وجودية تلك الفترة.
ويستكشف هاو في فصل آخر الطريقة التي سعى من خلالها يورغن هايرماز منذ أواسط ستينيات القرن العشرين الى إعادة بناء النظرية النقدية في اتجاهات تتغلب على التشاؤم والتناقض في اعمال اسلافه.
يذكر هاو انه في فصول الكتاب أراد ان يكشف للقارئ أوجه النظرية النقدية المختلفة، مشيرا الى طبيعتها المبرقشة متعددة الألوان، وتطورها التاريخي، غير ان اهم ما آمله ان أكون قد أشرت إليه هو صلتها بالراهن.
تأليف: آلن هاو
ترجمة: ثائر ديب
الحلقة 7
ما هي ما بعد الحداثة؟
ما بعد الحداثة مصطلح واسع يشير إلى تغيّرات ثقافية شهدها القرن العشرون في الفنّ، والعمارة، والأدب، والموسيقا، والسينما. وهي، مثل ما بعد البنيوية، تلفتُ إلى غياب الثبات عن معنى الأشياء، وتُغْنَى على نحوٍ لعوب، وساخر في بعض الأحيان، بالحياة في مجتمع إستهلاكي، لكنها تحتفي عموماً بقدوم هذا النوع الجديد من الحياة. أمَّا في علم الإجتماع، فتركز ما بعد الحداثة على الموسيقا، والتسوق، والسينما، وعلى ما تتّسم به تعريفات الجنوسة أو النوع الجنسي من طبيعة سائلة متزايدة، أو على الطريقة التي تتوقف فيها الهوية الإجتماعية اليوم على إستهلاك السلع وما تدل عليه هذه السلع، وليس على الطبقة الإجتماعية أو سواها من العوامل التقليدية. وبتجريد أكبر، وإعتماداً على الفكرة ما بعد البنيوية التي مفادها أنَّ الواقع بناء لغوي، فإنَّ ما بعد الحداثة تقوض شرعية التصورات الحداثية عن “الحقيقة”، و”العقل”، و”التقدم” وترى إنها إبتداعات غربية ونتاجٌ، إذاً، لنظرةٍ محددةٍ ما يعد معقولاً، أو حقيقياً، أو تقدمياً، وليست تلك الأفكار الكونية، والمتعدية للتاريخ مما يدعيه العرب.
وإذا ما كان قد وق على عاتق هابرماز (1987b, 1996) من بين المنظرين النقديين أن يدافع عن شرعية “الحقيقة”، و”العقل”، و”التقدم” ضد إضفاء الطابع النسبي عليها من قبل ما بعد الحداثيين، إلا أنَّ عمل الجيل الأول من المنظريين النقديين يقف أيضاً في تعارض مع ما بعد الحداثة بفذل إنتقاد ذلك الجيل للثقافة الجماهيرية. فقد كان الدافع الأساسي لأعمالهم الأخيرة أن الرأسمالية قد بلغت ذلك الحدّ الذي أدمجت فيه قوى المعارضة في النظام على نحوٍ تام وكامل بحيث غدا المجتمع أحادي البعد. وقد رأوا أنَّ إستهلاك منتجات صناعة الثقافة، والتسليع المتدرج لكل لكل أوجه الحياة وما يرافقه من تشيؤ للوعي، قد جعل الذات البشرية عاجزة لاحول لها ولا قوة، بحيث زالت إمكانية حدوث تغيير تاريخي نحو حياة أفضل، فواقع الحال، أن الرأسمالية قد أحدثت نوعاً من الركود التاريخي بغية الحفاظ على ذاتها والإبقاء عليها.
ما بعد الحداثة عند بودريار:
سوف أعامل مع أعمال جان بودريار على انها تمثل النظرة مابعد الحداثية إذا بصورة حاسمة عن دعاوي الإتجاه ككل. والحال، أن سمات الحياة التي تعتبرها النظرية النقدية سلبية هي ذات السمات التي ينظر إليها معظم ما بعد الحداثين مثل بودريار نظرة معاكسة تماماً. فعند بودريار، أن عادتنا في أن ننسب إلى الذات مفاهيم (ماركسية* مثل تشيؤ الوعي، والفيتشية السلعية وما إلى ذلك، هي عادة فكرية لا أساس لها في الواقع لأنها تفترض خطأً إمكانية وجود ذات نقية، مُقررة لمصيرها، وغير مغتربة. وبخلاف ذلك، فإن الذوات هي دوماً نتاج حقبة، وما فكرة الذات المقرَّرة لمصيرها تماماً سوى وهم عزَّزه التفكير الميتافيزيقي الغربي، وليست شيئاً جوهرياً في الكينونة البشرية.
وتمتد كتابات بودرار على مدى أربعة عقود. وعلى الرغم من أنّ آراءه ما بعد الحداثية البعيدة عن السياسة هي التي جلبت له الشهرة، فإنَّ أعماله الباكرة كانت قد إتسمت بمسحة راديكالية يسارية معينة. ففي ستينيات القرن العشرين، كان قد إرتبط بالأممة الظرفية وبأعمال غي ديبور خاصةً. والظرفيون هم جماعة شبه فوضوية تستمد أفكرها من عالم الفن الراديكالي. فقد وفرت السريالية والدادائية حجر الزاوية لحركة راحت تسعى إلى إزالة الموات في المشهد المديني عبر التدخلات الدراماتيكية التي يمكن أن تجترحها الموسيقا الحية والشعر. وقد إعتقد هولاء أنَّ السير قدماً لن يكون من خلال ثورة بروليتارية نائية أشد النأي بل من محاولة مزج الفن ذلك المزج الإبداعي الخلاق بالحياة اليومية بكل آنيتها ومباشرتها وإبتكار الظروف التي يمكن فيها للك أن يتم )ومن هنا إسم الظرفية*. وفي مجال علم الإجتماع كان عملهنري لوفيفر (1991) نافذاً في تطبيق الماركسيةعلى الحياة اليومية، لكنَّ الأكثر أمية كان مفهوم المجتمع بوصفه “مشهداً” أو “فرحة” كما طوره غي ديبور (1976). وفكرة أنَّ المجتمع الحديث هو مجتمع “مشهدي”، كونه يقوم على إستهلاك سلع تخطف الأبصار، هي فكرة تذكّر بالجيل الأول من النظرية النقدية؛ فكلاهما يعتقد أنَّ هذا المجتمع ينطوي على تهدئة الجماهير وتسكينها. غير أنَّه في حين أبدى هوركهايمر والآخرون ذلك الشك المستديم حيال الثورين الرومنسيين، رأى ديبور والظرفيون أنَّ التدخل المباشر يمكن أن يبدد هذا الوهم.
لقد إتكأت أعمال بودريار الباكرة على أفكار ديبور الماركسية الجديدة إلا أنه راح يعتقد، في سبعينيات القرن العشرين، أنَّ الحقبة، التي تنطبق عليها المفاهيم الماركسية مثل “الإغتراب” و”الفيتشية السلعية”، قد عَبَرَت. فحن غارقون اليوم في عالم ما بعد حديث لم يعد فيه “الشهد” وهماً بل غدا الشيء الواقعي. وهو يلوم ماركس على إعتقاده الميتافيزيقي أنَّ ذاتاً عاملةً جوهرية وغير مغتربة تقبع خلف مشاهد الرأسمالية، منتظرة أن تبرز إلى الوجود في لحظة من لحظات المستقبل تحل فيها محل الرأسمالية (بودريار 1983). وكان ماركس، في أعماله الفلسفية الباكرة، قد ناقشَّ طبيعة “الكينونة النوعية” الإنسانية، أو السمات الإبداعية الطبيعية التي تتسم بها الكائنات البشرية. وتكلم على الإبداعل البشري الذي تعبّر عنه قدرتنا على العمل على نحوٍ تعاوني والكيفية التي تشوهت بها هذه القدرة في ظروف الرأسمالية. ففي ظل الرأسمالية، وبسبب من الإستغلالي الذي تتصف به، كان أن إغتربنا عن الآخرين وعن أنفسنا وحيل بيننا وبين أن نحقّق إمكانيتنا الإبداعية بإضطرارنا إلى العمل يقصد إنتاج الخيرات لمنفعة مالكي وسائل الإنتاج. أما عند بودريار، فإنَّ الذات الإنسانية ليس لها أيّة طبيعة داخلية أو جوهرية محبطة تحاول الخروج من تحت رحى الرأسمالية.
ويعبّر بودريار عن معارضته لماركس من حيث تمييز هذا الأخير بين القيمة الإستعمالية للسلعة وقيمتها التبادلية.
فالقيمة الإستعمالية لسلعة ما تتمثّل في منفعتها لكل من يشتريها، أما قيمتها التبادلية فتتمثل في ما يكون مستعدين لأن يدفعوه بغية إمتلاكها في عالم تحدده العلاقات الإقتصادية الرأسمالية، بما في ذلك الأرباح، والأجور، والدعاية. وعند بودريار، أنّ وضع القيمة الإستعمالية في تعارض مع لقيمة التبادلية وتقديم الأولى على أنها شيء حسن بطبيعته، كما لو أنها التعبير الموثوق عن حاجة إنسانية فعلية، بخلاف عالم التبادل الرأسمالي المشوه، إنما هو أمر مضلل. فما يجده البشر مفيداً ونافعاً إنما يتحدد على الدوام ضمن نظام للمعنى شامل وكلّي، بحيث لا يكون هنالك ما هو “خارج” النظام حيث يمكن لحاجات البشر غير المغتربين الفعلية أن تتواجد بعيداً عن التشويه؛ فما “نحتاجه” هو ما نشتريه ضمن نظام شامل للمعنى (أو التدليل). والذات الإنسانية، شأنها شأن السلع التي تستهلكها، إنما توجد داخل نظام المعنى وتكون جزءاً من هذا النظام. وما يقوله بودريار فعلياً هو أنّ فكرة الذات الإنسانية بوصفها مخلوقاً يمكنه أن يوجد على نحوٍ غير مغترب، ومتحرر من الشروط المشوهة، هي فكرة واهمة لأن الذات هي تعبير عن نظام لمعنى يقدر السلع. وهكذا، لا يكون هنالك ثمة طريقة جوهرية لإنتقاد واقع الحياة في المجتمع الرأسمالي لأن شروطه لايمكن وصفها إلا بالنسبة إلى شروط في مجتمعات أخرى، بعيداً عن أحكام القيمة.
وما يقدمه بودريار بطرائق شتى هو أشبه ما يكون بحكاية هي هكذا؛ فليس ثمة إمكانية خفيفة، ولا ذات غير مغتربة بطبيعتها تقبع خلف المظاهر وتحاول أن تخرج إلى العلن. فالعالم ما بعد الحديث هو عالم “بلا عمق”، وذلك هو حال الأشياء لا أكثر ولا أقل. وهو يصف العالم دون أن يشير ما الذي يجعله كذلك، ولا يلبث أن يقرأ بصورة غير نقدية (كما أرى) ما يُفترض أن تكون عليه الذات الحديثة من خلال ذلك الوصف.
وعند بودريار،أنّ العالم ما بعد الحديث يشتمل على تحطيم لقيود التقليد العقابية، ذلك التحطيم الذي ينبغي أن ينظر إليه على أنه تحررٌ من المطالبة الحداثية بالتقدم ومن الإمتثال للمثل التي تدعم هذه المطالبة؛ وبذلك يكون ما نحتاجه الآن هو أن نتحرّر من المحرّرين.