بصدد “النظرية النقدية”

يستعمل مصطلح النظرية النقدية في العلوم الاجتماعية ليشير الى نظريتين مختلفتين من حيث النشأة والتاريخ.
من حيث التاريخ فان النظرية النقدية نشأت او انبثقت من النظرية الاجتماعية اما النشأة فانبثقت من النقد الادبي.
التطورات التي طرأت على مناهج العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية استطاعت ان تزيح بعض الفوارق والحواجز ما بين النظريتين، وأصبح هناك تداخل بين النقد الادبي الذي يدرس بنية النص وبين الدراسات التي تتعلق بالمجتمعات البشرية والأنظمة التي تسود فيها.
وبناء على ما تقدم فان مصطلح النظرية النقدية بات شائعا جدا، إضافة لكونه مصطلحا واسعا يغطي مجالا واسعة من النظريات العلمية التي تتناول منهجية دراسة العلاقات بين المكونات سواء كانت مكونات أدبية نصية أم مكونات اجتماعية أنثربولوجية وهي غالبا ما تندرج ضمن نظريات ما بعد الحداثة.
رسم آلن هاو في كتابه النظرية النقدية الخطوط العريضة لما بذله هور كهايمر من جهود أولى بوضع نظرية ديالكتيكية تقف إزاء نظرة سلفه غرونتبرغ الوضعية “الاستقرائية”، غير ان النظرة الديالكتيكية التي قدمتها النظرية النقدية لم تقتصر على الماركسية الوضعية حسب، بل تعداها أيضا الى وجودية تلك الفترة.
ويستكشف هاو في فصل آخر الطريقة التي سعى من خلالها يورغن هايرماز منذ أواسط ستينيات القرن العشرين الى إعادة بناء النظرية النقدية في اتجاهات تتغلب على التشاؤم والتناقض في اعمال اسلافه.
يذكر هاو انه في فصول الكتاب أراد ان يكشف للقارئ أوجه النظرية النقدية المختلفة، مشيرا الى طبيعتها المبرقشة متعددة الألوان، وتطورها التاريخي، غير ان اهم ما آمله ان أكون قد أشرت إليه هو صلتها بالراهن.

تأليف: آلن هاو
ترجمة: ثائر ديب

الحلقة 5

بنيامين ضدّ أدورنو:

تمكن قراءة مقالة بنيامين على أنّها نقد لأفكار أدورنو المفرطة في سلبيتها بصدد صناعة الثقافة. فقد كان لدى بنيامين وجهة نظر بهذا الصدد أشدّ تفاؤلا وديمقراطية، خاصةً حيال السينما وما تنطوي عليه من إمكانية تعزيز التقدّم (انظر وولن 1994). بيد أنّه على القارئ، على الرغم من ذلك، إنّ يحذر من أن يرى إلى وجهتي نظر بنيامين وأدورنو على أنّهما ضدّان متقابلان. فوجهات نظر أدورنو، كما قلت آنفاً، أشد تعقيداً مما تبدو عليه للوهلة الأولى، ووجهات نظر بنيامين هي أبعد ما تكون عن الإكتفاء بمديح صناعة الثقافة.
وما يُعنى به بنيامين، كما يشير عنوان مقالته، هو طبيعة الفنّ في الحقبة المعاصرة، حين صار من الممكن إنتاج الاعمال الفنية إنتاجاً جماهيرياً ضخماً. فقد يبدو للأنظار كما لو إنّ العمل الفني ذاته لا يتغير بصرف النظر عن عدد المرات التي يُعاد إنتاجه بها، فتقنيات التسجيل والتصوير الفوتوغرافي الحديثة تحقق رجات رفيعة من الدقة في إعادة الإنتاج، إلا إنّ معنى الفن هو الذي تغير بمرور الزمن كما يرى المنظرون النقديون. وما يعنيه العمل الفني بوصفه كذلك هو أمر مرتبط بشروط إنتاجه وإستقباله، وإن كان ذلك لا يجعل منه مجرد ظاهرة نسبية تابعة.
وعند بنيامين، أنّ للفنّ الغربيّ أصوله في الإيمان الديني. ففي العصور الوسطى، كان الرسم والموسيقا يعبّران عن إلهام سماوي وكانا جزءاً لا يتجزأ من الطقوس والشعائر الدينية. غير أنّه كان للفنّ، بفضل هذه السماوية، “هالة” فريدة لم يكن من الممكن إن يعَاد إنتاجها.
كان العمل الأصيل هو العمل الأصلي الموثوق، ومعنى هذا العمل، المتأصل فيه كعمل فردي محدّد، كان هو الذي يُنقَل ويُمرَّر بوقار وإجلال بوصفه تقليداً او تراثاً. وحتى في عصر النهضة، حين حلّت البواعث العلمانية جزئياً محلّ البواعث الدينية، ظلت “هالة” الأصلية أو الموثوقية متشبِّثة بالعمل الأصيل. وفي القرن التاسع عشر، بلغ استقلال العمل الفني ذروته الأرفع مع تنامي مذهب “الفنّ للفن”.
غير أنّ العمل الفني راح يتغيّر في عصر إعادة الإنتاج الآلية الحديثة. فإستخدام الصور المقرّبة أو صور الحركة البطيئة في السينما، على سبيل المثال، يعيد إنتاج الأشياء التي لا تقوى العين المجردة على رؤيتها. وقدرة السينما على أن تجمع معاً صوراً متباينة إلى أبعد الحدود، كما يرى النظَّارة تفاصيل حيواتهم اليومية، هي، عند بنيامين، قدرة تثبّت تلك الحيوات وتمارس محرِّراً جوهرياً. وما تغير أيضاً وبالمثل هو الظروف والأوضاع التي يُشاهَد فيها العمل الفني أو يُسمَع. فالمعرض الفني وقاعة الموسيقا يفقدان صفتهما “المقدسة”، حيث يمكن إعادة إنتاج العمل الفني وإختباره أو عيش تجربته في عدد كبير من الظروف أو الأوضاع الأرضية الدنيوية. وقد تمثَّل الأثر المباشر لهذه السيرورة في الإقلال من أهمية هالة العمل الفني. فحين تكون هالة العمل متوقِّفة على فرادة هذا الأخير، لا بدَّ ان يفضي توفّر النسخ الكثيرة من هذا العمل إلى الحدِّ من هالته.
ويدرك بنيامين أنَّ سيرورة إعادة الإنتاج الآلية لا تنطوي على قطيعة فورية ومباشرة مع العناصر اللاعقلانية في الفنّ المحاط بهالة، وأنها قد تعيد تكرار تلك العناصر أو ترددّ أصداءها، بطريقة ذات طابع سلعي، في الإنطباع الذي يتركه “نجم” سينمائي:
تتمثل ارتكاسة السينما حيال ذبول الهالة ب”بناء” الشخصية بناءً مصطنعاً خارج الأستديو. فما تحفظه عيادة النجم السينمائي التي تعزّزها أموال صناعة السينما لا يقتصر على هالة الشخص الفريدة بل تتعدَّاها إلى “سحر الشخصية”، سحرُ سلعةٍ زائف
(233:1973)
لكن بنيامين يرى أنّ الاهم من وجود هذه السمة النكوصية هو أن نتبيَّن فضائل ضروب الفنّ المختلفة، كالسينما والتصوير الضوئي، التي تنبع من إبتكار ضروب مختلفة من عملية الإنتاج. وتكمن فضيلة المنظومة الحديثة لإعادة الإنتاج الآلية في واقعة أنَّها تطيح بقدر كبير من الإجلال الذي يُبْذَل للفن، وتقيم قطيعة مع التقليد النخبوي “المحاط بهالة” بجعلها الفنّ متاحاً للجميع. هكذا يصف بنيامين تلك النتائج المساواتية المترتِّبة على زعزعة دعامة التقليد التي كانت تحتضن العمل الفني:
إنّ إنتزاع شيء من صدفته التي يحتمي بداخلها، والإطاحة بهالته، هما علامة على إدراك تَعَاَظَم “إحساسه بالمساواة الشاملة بين الأشياء” إلى درجة بات يقدر فيها أن ينتزع هذه المساواة حتى من شيء فريد عن طريق إعادة الإنتاج
(225:1973)
وبعبارة أخرى، إنَّ إعادة إنتاج الأشياء إعادة جماهيرية ضخمة، بما في ذلك الأشياء الفنية، قد كان لها أثر على الإدراك؛ فقد جعلتنا ندرك زوالية الأشياء وإنتقاليتها أو حالتها العابرة. ففي عصر إعادة الإنتاج الآلية، ما من شيء من حيث كونه شيئاً إلا وهو، بمعنى ما، مُختَرَع او مُلَفَق شأن أي شيء آخر، أو أنَّ معناه “مبنّي إجتماعياً” كما يمكن أن نقول لو إستخدمنا الرطانة الحديثة، فلا يعود بمقدوره أن يكون غامضاً وملغزاً على النحو الذي يُفتَرَض بالأعمال الفنية الفريدة أن تكون عليه.
وثمة فوارق دقيقة أخرى تفصل العمل الفنّ المُعاد إنتاجه آلياً عن العمل الفني المُحاط بهالة. ففي الأفلام السينمائية، يعكس المسرحيات التمثيلية، ليس لدى الممثلين فرصة لان يعدِّلوا أداءهم بحسب النظَّارة، الأمر الذي يتيح لهؤلاء النظَّارة إتخاذ مسافة نقدية حيالهم. ويلاحظ بنيامين أنّ كلَّ واحد من جمهور السينما يغدو نوعاً من الخبير بالفيلم الذي تمَّت مشاهدته. وحين نشاهد فيلماً سينمائياً إخبارياً، فإننا نعلم أنّه كان يمكن أن يكون هناك، ونتحوّل من “مجرد أشخاص عابرين إلى مشاهير سينما”، لأنَّ ما يُعْرَض أمامنا في مثل هذا الفيلم هو عالمنا. وجمهور السينما يشاهد الأفلام بدرجة معينة من عدم الإنتباه والإهتمام تجعله يتقبّل الإبتكار أو التجديد البصري الثوري. ففي حين كانت ردود أفعال الكثيرين سلبية على اللوحات المجَرَّأَة المشظاة التي رسمها بيكاسو، فإنّ هؤلاء تقبلوا التشظِّي البصري في أفلام شابلن وأعتبروه تقدمياً مثقفاً. وما يهمّ بنيامين هو التغيّر في الموقف “السياسي” الذي ينبع من هذه التغيرات المادية/ الثقافية. وهو تغيُّر قد يتجلى مباشرة على صورة موقف مختلف من قضايا سياسية معينة وقد لا يتجلى، إلا أنّه يمثّل تحولاً دقيقاً بإتجاه رؤية للعالم أكثر ديمقراطية لا رجعة عنها.
وكثيراً ما تُعْتَبَر مقالة بنيامين هذه على أنّها إختراقٌ كبير في النظرية النقدية، ونَقلةٌ بعيداً عن نظرة أدورنو السلبية إلى الأشياء بإتجاه فهم للثقافة الجماهيرية أشد تمييزاً ويتيح لنا أن نجد في تلقّي هذه الثقافة عناصر يمكن أن تكون تقدمية وقائمة على التفاعل والتبادل. ومثل هذا الرأي لا يقتصر على الجيل الثاني في النظرية النقدية، بل يقع أيضاًً في القلب من قَدْرِ كبير من التحليل المعاصر لوسائل الإعلام. ومع أنّه ليس من مهمتي هنا أن أقف في هذا الطرف أو ذاك، إلا أنّه يجدر بي أن أستعيد ردود أدورنو على أفكار بنيامين، كتذكرة بما تميّزت به هذه الردود من قوة لا تزال حاضرة.
رأى بنيامين في ذهول الجمهور، أو عدم إنتباهه حيال الأشياء، فرصةً لهم للخلاص من الربقة اللاعقلانية التي تفرضها هالة العمل الفني، وفضاء يمكن فيه لملكات هذا الجمهور النقدية أن تثمر بعيداً عن حضور مفاعيل التقليد وآثاره الطغيانية. وبالمقابل، فقد رأى أدورنو إلى هذا الذهول ذاته على أنّه عرض من أعراض النكوص. فالبشر يستهلكون أفلامهم أو موسيقاهم بطريقة ذاهلة لأنّ حيواتهم ليست مُلكاً لهم، بل تتوقف على التقيّد بتقييدات الشركات الإحتكارية. كما أنّ السلع التي يستهلكونها كنوع من السلوان والعزاء هي سلع فارغة، لا تتطلّب أيّ إنتباه، ولا تقتضي سوى إمتصاصها وحسب. وبدلاً من أن تثير الفكر النقدي، فإنّها تجعل الفكر ذاته أمراً لا ضرورة له. وواقعة أنّ لكلٍّ رأيه في الفيلم الذي عُرِضَ مؤخّراً وحقّق نجاحاً كبيراً هي واقعة تُعْزَى إلى المبالغ التي أُنْفِقَت على هذا الفيلم، والأثر الذي كان لشعبيته ودعايته.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة